كثيراً ما يشار الى ما يسمى بالدولة العميقة في محاولة لإثبات دور جهات تقف وراء عملية صنع القرار وتحريك الأحداث. ودون الخوض في مساجلات قد لا تروق للبعض، لا بدَّ من الفصل بين إرادتين، الأولى التي قادت بشكل مباشر عملية التغيير بعد احتلالها للبلاد، ثم أنفقت نحو سبعة ترليونات دولار بهدف التأسيس لمشروعها في الشرق الأوسط، مدعومة بأموال شركات العولمة التي تسعى جاهدة للفوز بمستقبل المنطقة في ظل هيمنة القطب الواحد على العالم، مدفوعة بمقومات وفرة مصادر الطاقة والخامات والأيدي العاملة الرخيصة والأسواق الاستهلاكية وغياب القوانين البيئية وسواها، فضلاً عن الرغبة الجامحة في الهيمنة على حركة التجارة العالمية في منطقة تقع في قلب العالم عند ملتقى ثلاث قارات، والثانية تمثل إرادة إقليمية تقف خلفها دولٌ كبرى تحاول إفشال أو تقويض المشروع الشرق أوسطي، وجدت في المشتركات العقائدية مع شعب متطلع للحرية بعد عقود من الدكتاتورية والاستبداد، ما يؤهلها لخوض الصراع على الساحة العراقية مع أطراف تناصبها العداء. وبين الأولى والثانية تقف إرادات جماهيريَّة تسعى لتحقيق حلم الدولة المدنية القائمة على المؤسسات والعدالة الاجتماعية،
بجوار أفراد وفئات وجماعات باحثة عن النفوذ والسلطة بكل الوسائل، في ظل تجاهل تام لدوافع هذا الصراع
وتداعياته.
وعلى الرغم من عدم وضوح الرؤية في المراحل الأولى من سنوات المرحلة الانتقالية جراء الضبابية التي فرضتها أدوات الصراع، إلا أنَّ اعتماد أسلوب الصدمة في تمرير معطيات الانتقال من شكل الدولة الشمولية أو ما يسمى بالدولة الراعية الى شكل الدولة الليبرالية القائمة على سلطة رأس المال وما رافقها من تأسيس، جعل الطرف الآخر ضالعاً في توظيف أدواته القائمة على المنهج العقائدي والامتدادات الاجتماعية والتاريخية، بما يؤسس لتعزيز موقفه التفاوضي مع أصحاب المشروع الشرق أوسطي، مستفيداً من معطيات الصدمة التي جعلت من سلطة العقائد ملاذاً آمناً للدفاع عن الذات والجماعة، ومن هنا جبل التوصيف على مسمى «الدولة العميقة» في إشارة لمراكز التوظيف العقائدي ذات التأثير السياسي والمجتمعي، على الرغم من أنَّ مفاتيح مجريات الأحداث يحركها سيناريو الإعداد لدولة تقودها رساميل العولمة ولا يملكها سوى من قام بفعل الاحتلال وفرض وصايته على البلاد. وما المعطيات إلا نتاج لهذه
الوصاية.
فهي تارة ناجمة عن اشتراطات الجهات الدائنة ومؤسسات العولمة تحت مسميات وأشكال مختلفة، وتارة أخرى تحركها أصابع داخلية
وخارجية تحت امرة المنظمات الدولية التي تماهت مع مراكز صنع القرار. ومن هنا يمكن مشاهدة ملامح «الدولة
العميقة».
الآن انظر الى خروج القطاع العام من دوره بدعوى الفساد! ألم تكن قوانين السلطة الانتقالية والمحاصصة التي فرضتها توصيات من يمثل الجهات الدولية أساساً لهذا، الأمر الذي جعل الشركات العامة خاسرة وزاد من البطالة والجريمة وفعاليات اقتصاد الظل، بالتزامن مع الشروط التي فرضها الصندوق والبنك الدوليان والمتعلقة بالخصخصة وايقاف التعيينات،
وهما يجران البلاد نحو المديونية في زمن الوفرة المالية، ثم انظر الى تعويق تشريع الكثير من القوانين بدواعٍ مختلفة والتي كانت البلاد بأمس الحاجة لها «فبسبب غياب قانون المحكمة الاتحادية كانت التوافقات غير الدستورية التي فرضتها الجهات الداعمة للعملية السياسية والتي منحت بعض الأطراف امكانيات لي الأذرع، فيما وفر غياب قانون الأحزاب لسنوات، بيئة خصبة للتخابر مع الجهات الأجنبية، وقبل أن ننتهي، انظر الى المساحة التي خلفها غياب قانون جرائم المعلوماتية، انها مليئة بالفوضى التي تجتاح الرأي العام. وكلما توغلت أبصارنا في النظر وجدت الملامح الحقيقية للدولة العميقة
في هذا الإطار.