صادق كاظم
كان العراق في تموز من العام 1958 على موعد مع حدث غير من مساره التاريخي والسياسي حتى هذه اللحظة ، حين شهد اسقاط واحد من اقدم الانظمة الملكية التقليدية في المنطقة والتي تأسست بقرار بريطاني نتيجة لاتفاقية سايكس بيكو التي تم بموجبها تقسيم المنطقة الى دول جديدة بعد مرحلة ازاحة الاحتلال التركي – العثماني عنها .
كان النظام الملكي ومنذ منتصف الخمسينيات يعيش ازمة خطيرة في ظل شيخوخة الزعماء السياسيين وابرزهم الزعيم القوي نوري السعيد ومراهقة الوصي على العرش عبد الاله وصغر سن الملك فيصل الثاني ومحدودية خبرته وتواضعها في ادارة دولة معقدة وصعبة مثل العراق . الجيش كان المؤسسة الوحيدة القادرة على الاطاحة بالنظام وادارة دفة التغيير واسهمت حرب فلسطين في العام 1948 ونجاح تجربة الضباط المصريين في اسقاط النظام الملكي عام 1952 في منح زملائهم الضباط العراقيين الحافز للقيام بثورة مشابهة وهو ما حصل فعلاً في بغداد بعد 6 اعوام من اندلاع الثورة
المصرية .
كانت الظروف مهيأة ومتاحة لسقوط النظام الملكي في بغداد ، حيث كانت الطبقة السياسية التي تضم نخبة الزعماء التقليديين ، فضلاً عن كبار ضباط الجيش عاجزة عن اصلاح الاوضاع السياسية والاجتماعية التي كانت متأزمة في العراق وقتها، حيث الحكومات العسكرية المتواصلة والاحكام العرفية ومطاردة المعارضين واعدام قادتها احياناً واغلاق الصحف وسحب تراخيص الاحزاب ، فضلاً عن تفشي الامية والاقطاع، حيث كان الزعماء العشائريون من حلفاء الطبقة السياسية، اضافة الى السفارة البريطانية في بغداد يديرون اكبر مزارع العبودية والسخرة في جنوب العراق، اذ كان اكثر من ربع مليون مزارع عراقي يعيشون في ظروف اجتماعية وانسانية مزرية بينما كان يتمتع هؤلاء الزعماء العشائريون من خلال كارتل اقتصادي ضخم بثروات مالية ضخمة كانت لا تقل عن 5 ملايين جنيه استرليني سنوياً من خلال تصدير محاصيل الرز الى خارج العراق دون ان يحصل هؤلاء الفلاحون على اي شيء منها .
لم تكن النهايات المأساوية لمصير العائلة المالكة التي قتلت باكملها، مخططاً لها مسبقاً عن طريق تصرف متهور و فردي من ضابط لم يكن من مخططي الثورة او زعمائها ،بل قادته الصدفة وحدها الى ان يستولي على مدفع هاوتزر ويقصف به المنزل الملكي، حيث اضفت طابعاً حزيناً ،حين تحول مشهد الجثث المجندلة للعائلة المالكة الى مهرجان للسحل والتمثيل وانطلاق مهرجان للعنف والدم لم يتوقف حتى بعد نجاح الثورة لاحقاً .
اسهمت ثورة تموز في تغيير الواقع العراقي بكل جوانبه نحو واقع افضل ، حين انطلقت عجلة الاعمار بكل طاقاتها واستردت البلاد جزءاً كبيراً من ثروتها النفطية ، الا ان ما يؤخذ على نظام الثورة وربما كان هناك عذر لزعيمها الجنرال عبد الكريم قاسم عدم سعيها لترسيخ
واقامة المؤسسات الديمقراطية في البلاد كالبرلمان والدستور والنظام القضائي واجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية وضبط الصراعات والنزاعات السياسية المشتعلة داخل البلاد بحزم اكبر . لقد احتلت الصراعات ما بين اجنحة ضباط الثورة مساحة كبيرة من الوقت اهدرت خلالها فرص ثمينة لمنح البلاد الاستقرار والتنمية التي كانت تنشدها ، اضافة الى اشتداد الضغط الدولي والاقليمي المناهض للثورة من خلال بعض الزعامات العميلة لها والتي انتظمت في تجمعات ومحاولات انقلابية وصلت الى حد محاولة قتل الجنرال قاسم
وتصفيته .
لقد حققت ثورة تموز الكثير من الانجازات ابرزها انها اخرجت العراق من صف الاحلاف الاجنبية المشبوهة ومن التبعية للاستعمار البريطاني ، اضافة الى ادخال البلاد في مرحلة التصنيع المتقدمة عبر انشاء المصانع والمعامل وتوسيعها بشكل كبير واستثمار الثروات الطبيعية بالاستعانة بخبرات دولية ، فضلاً عن اقامة المطارات والموانئ وشبكات الطرق التي ربطت مختلف انحاء البلاد ومنح الفلاحين قطع اراض زراعية خاصة بهم بعد الغاء نظام الاقطاع والاطاحة به وبرموزه وارتفاع معدل الناتج القومي والتنمية البشرية وبشكل كبير . كما تم تطوير قطاع التعليم الذي اخذ بالتوسع افقياً وعمودياً، وكان من المتوقع ان تكون هناك حركة تطور كبيرة على صعيد البلاد ،لولا ان تم اغتيال الثورة نفسها يوم الثامن من شباط الاسود من العام 1963،حين سيطرت العصابات الطائفية والمناطقية والعشائرية على الحكم لتقود البلاد لاحقاً صوب الحروب والدمار والزعامات الفردية الدكتاتورية الدموية صاحبة الانجازات المميزة في معدلات الخراب وقصف المدن بالاسلحة الكيميائية والمقابر المليونية
الجماعية .
تبقى ثورة 14تموز منعطفاً تاريخياً مهماً اعاد للعراق وشعبه كرامته وحريته وفتح الطريق نحو تقدم حقيقي وتوظيف فعلي للموارد اسهم في تقدم البلد ورفعته ورفاهية شعبه بعد ان كان ثلثي ابنائه يعيشون تحت خط الفقر ،حيث برامج التنمية والاعمار التي رفعت من مستويات الدخول الفردية ورفعت المستوى المعاشي للمواطنين العراقيين وهي انجازات تحسب لثورة وليدة واجهت اصعب الظروف والصعوبات التي استهدفتها ومنذ لحظة ولادتها.