العشوائيات .. مثل نُدب سود ظهرت على صفحات وجوه المدن وأجسادها ، فشوهت الجمال والتصميم ، وضغطت على الخدمات ، وهددت المشهد الأمني ، وربما اساءت قليلاً الى النسيج الاجتماعي .. العشوائيات ، شاهد حي على وجود خلل بيّن في الواقع العراقي ، وهذا الخلل لم يكن وليد مرحلة مابعد عام 2003، إنما قبل ذلك ، وأشير هنا الى أزمة السكن التي بدأت تنشب أظفارها في اجسادنا منذ ثمانينيات القرن الماض، عندما توقفت الحكومة عن أي معالجات لهذا القطاع او لسواه من القطاعات الأخرى ، والتفتت كلياً الى الحروب ، والتحارش بهذا وذاك من دول الجوار ، فيما كان عدّاد الولادات يواصل دورانه بسرعة فائقة ، مسجلاً مليون ولادة سنوياً ، فتفاقمت الأزمة ، قبل انهيار النظام السابق ، ثم جاءت مرحلة مابعد التغيير ، ولم تأتِ معها بإي حلول للمشكلة ، إنما بالعكس ، بدأت المشكلة تنمو ، ومع وجود ضعف في تطبيق القوانين، نمت ظاهرة العشوائيات ، بنحو لافت ، فقد هب الناس غير مصدقين ليستحوذوا على كل ما طالته أيديهم من أراضٍ وبنايات ، بصرف النظر عن ملكيتها ، خاصة كانت أم عامة ، ومع غياب الحلول ، واشتداد الصراع السياسي في البلد ، انتشرت الظاهرة ، حتى غدت علامة فارقة تمهر وجوه مدننا كافة ، وكل ما مر عام ، شاهدنا تمدداً جديداً للعشوائيات ، وتخبرنا الإحصائيات التقديرية للسكن العشوائي ، ان لدينا نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون انسان يقطنون ،في مايقارب الـ(600) وحدة سكنية ، موزعة بين (4) آلاف عشوائية ، منها الف عشوائية او يزيد ، في العاصمة بغداد وحدها ، فيما تتوزع الثلاثة آلاف المتبقية في (14) محافظة من البصرة الغافية على بحر من النفط ، الى أم الربيعين شمالاً ..
نعم ، لاشك ولا ريب ان مشهد العشوائيات يمثل شاهداً صارخاً ، بوجود عجز واضح من قبل الحكومات المتعاقبة ، في عدم قدرتها على معالجة المشكلة ، وقطعاً فان السبب الرئيس هو ليس الجانب المالي ، فالعراق ليس فقيراً ، ولا توجد لدينا مشكلة ، في الموارد ، إنما لدينا مشكلة في هضم هذه الموارد وتوجيهها بنحو سليم ، بل تعود الأسباب الى غياب الإرادة ، وتصارع التيارات السياسية ، التي يحاول بعض راكبيها ، استغلال عواطف ساكني العشوائيات ، في تحقيق مآربهم الانتخابية والسياسية ،لذلك كانت الحكومات تقف عاجزة غير قادرة على معالجة المشكلة جذرياً ، كانت المعالجة تحتاج الى بيئة إيجابية تحقق النجاح ، وما لم ، يكن هناك تنسيق عالي المستوى بين السلطتين التشريعية والتنفيذية ، لن نشهد أي حل ، بلحاظ المحاولات السابقة التي اصطدمت بأهواء ومصالح سياسية ، كانت تريد تجيير الملف لحسابها الخاص ، فغابت الحلول ، وسادت المشهد ضبابية ، تسببت بانحراف البوصلة عن مسارها الصحيح ، فطال الأمد ، وتفاقمت المشكلة ، ولكن هذا لايعني ولا يعفي المعنيين من محاولة البحث عن حلول ، فلا توجد مشكلة في الكون ليس لها حل ، شريطة توفر الإرادة
وقوة القرار ..
ياترى فهل سنجد القرار وقوة الإرادة حاضرين بقوة ، لإمضاء حزمة القوانين التي صوت عليها مجلس النواب مؤخراً ، بهدف حل أزمة السكن ومعالجة وتسوية السكن العشوائي في العراق ؟ وهي بصراحة قوانين في غاية الأهمية ، تشكل بمجموعها خريطة طريق ممتازة لمعالجة المشكلة ، لاننا نتحدث عن ستة قوانين وإعادة النظر بواحد وتعديل اخر ليصبح مجموعها تسعة قوانين في سلة واحدة ، فلدينا قانون معالجة التجاوزات السكنية ، وقانون إفراز الأراضي الزراعية والبساتين الواقعة ضمن التصميم الأساس للمدن ، وقانون استيفاء اجر المثل عن الأراضي المملوكة للدولة والمُتصرَف بها لأغراض غير زراعية ، وقانون صندوق الدعم لمعالجة العشوائيات ، وقانون شركات الوساطة العقارية ، وقانون التطوير العقاري ، وقانون التمويل الشامل ، فضلا ًعن تعديل قانون الاستثمار ، وإعادة النظر بقانون دعاوى نزاعات الملكية ، واهم ما دعت اليه تلك السلة القانونية ، هو ايجاد جهة قطاعية تنفيذية عليا تتولى ادارة حل مشاكل السكن ، ولها صلاحيات في نقل ملكية الأراضي المملوكة لأي من مؤسسات الدولة ، كما تلزم القوانين الجديدة ، الحكومة بتنفيذ سياسة الاسكان ، وتأكيدها على تضمين موازنة العام المقبل تخصيصات مالية مناسبة تصل الى ترليونين ونصف الترليون دينار ، تخصص للمصرف العقاري وصندوق الاسكان واكمال مشاريع السكن المتلكئة ، وهي ارقام ستحدث اثراً لو تم تخصيصها فعلاً في الموازنة ، لاسيما مع وجود برنامج للتمويل العقاري يمنح القروض للمواطنين بنسب فائدة متهاودة وبمدة زمنية مريحة ، ولكن الأهم من هذا كله ، هو فتح آفاق الاستثمار في قطاع السكن ، ودعم
المستثمرين .
لذلك اعتقد جازماً ان حزمة المشاريع الجديدة ، تضمنت حلولاً ومعالجات شاملة للمشكلة ، لانها جاءت بعد بحث ودراسة ومتابعة ولقاءات واجتماعات وورش عمل مكثفة نفذتها لجنة التخطيط الستراتيجي ومتابعة البرنامج الحكومي النيابية ، بالتعاون مع الوزارات والجهات ذات العلاقة ، مستفيدة من مسودات القوانين التي سبق لوزارة التخطيط تقديمها في إطار سعيها لحل مشكلة العشوائيات ، نأمل لهذه الإجراءات ان تجد طريقها للتطبيق في ارض الواقع ، فقد آن الأوان لإزالة مشهد العشوائيات المزعج ، اذ من حق المواطن العراقي الذي يعيش في احد أغنى بلدان العالم ، ان يجد عيشاً كريماً وسكناً مريحاً ، بكفالة الدستور .