ان حجم التحولات الفكرية والايديولوجية التي حدثت في العراق، والتي كان لها اثر لا يستهان به في مستقبل الجيل الحالي وبالتأكيد على الاجيال المقبلة، كل هذه التحولات اوجدت الحاجة للتقييم والتصويب المرحلي في التجربة من خلال تحليل واقعها والنتائج الفعلية لتلك التحولات الفكرية والسياسات المترتبة على منظومة متكاملة من القوانين التي ترتبت عليها، والتي كان البعض منها سابقاً للواقع العراقي والقبول المجتمعي
له.
ولعل هذا ما دفع مؤلف الكتاب ياسر المتولي في جمع كتاباته المتتالية والتي قدمها في عموده الاسبوعي في جريدة الصباح وغيرها من كتابات مختلفة، لتمثل استعراضاً لتسلسل زمني لمجموعة من الطموحات المتتالية لتنسجم مع التحولات في الواقع العراقي ومجموعة التحديات التي شهدها خلال الفترة الماضية ولتتفاعل مع متطلبات كل مرحلة من المراحل. فمن طموحات جامحة في خروج الدولة من دورها المهيمن على مختلف الانشطة الاقتصادية، الى دولة ينحصر واجبها في تنظيم العلاقة بين القطاع الخاص والعالم الخارجي وحماية المستهلك من خلال مجموعة واسعة من القوانين والتشريعات واتاحة القدر الكافي من الدعم له للنهوض بدوره في العملية الانتاجية والخدمية وذلك من خلال سياسات مالية ونقدية
هادفة.
الا ان اخفاق المشرع العراقي في ملاءمة التحولات الفكرية بما ينسجم مع اعطاء الدور الريادي للقطاع الخاص المنتج دفع بكاتبنا العزيز الى تكييف طموحاته مع معطيات الواقع السياسي والاقتصادي. وحاول الكاتب، وبكل نجاح بالتأكيد، في استعراض اشكالية طبيعة هوية الاقتصاد العراقي بالفصل الاول من كتابه ووقوفه على اقصى يمين اقتصاد السوق وبدعم دولي واممي مباشر في محاولة لاصلاح الملف الاقتصادي الذي تعمقت فيه الملفات الشائكة. كما تناول كاتبنا الكريم جداً في عطائه، البرنامج الحكومي والموازنات ليخوض في طبيعة دور نفقات الحكومة واشكاليات الموازنات العامة المتتالية والدور المهم الذي ينبغي للقطاع الانتاجي الحقيقي في التعويض عن النزعة الاستهلاكية التي عاشها العراق كنتيجة حتمية “للاستهلاك المؤجل” في اعقاب حقبة الحصار الاقتصادي التي عاشها العراق، الذي تزامن مع فوضى للسياسات الاستيرادية وغياب التشريعات الحاكمة
لها.
وعاد الكاتب في الفصل الثالث من كتابه القيم الى التأكيد على وجهي السياسة النقدية، الاول هو البنك المركزي العراقي، والثاني سلطة المال وقطاعه المصرفي ليعكسا معاً عمق الدور الموكل لهما في توجيه العملية التنموية وتمكين الدينار العراقي من الثبات امام مجموعة واسعة من الازمات المتتالية التي كان من شأنها ان تنعكس سلباً على قيمة العملة وحجم الاحتياطي من العملات الاجنبية لولا اعتمادهما على سياسات حكيمة مُنظمة لمجمل الفعاليات والانشطة
المالية.
كما تناول الكاتب بشكل منفصل مجمل اشكاليات الواقع الخدمي للفرد العراقي منطلقاً من الخدمات البلدية شاملاً خصخصة قطاع الكهرباء واشكالاتها ومن ثم ازمة الاسكان وسبل معالجتها والمبادرات التي اطلقتها الحكومات المتعاقبة لمواجهتها. كما تناول الكتاب في ختام كتابه المعمق والدقيق بشكل مستقل ركناً أساسياً من أركان التحول في السياسة الاقتصادية العراقية وهو دور القطاع الخاص والطموحات التي كانت مؤملة منه واخفاقاته، والتشريعات المتعلقة بالاستثمار وتحديد اولويات الاستثمار بما ينسجم مع قانونه 2006/13 والتحولات الايديولوجية باتجاه الصناديق السيادية وبخاصة مع التقلبات التي يشهدها سعر النفط
العالمي.
وختاماً فإن الكتاب الذي اسعدني كثيراً فرصة الاطلاع عليه، سيكون مرجعاً قيماً لمجمل التحولات الفكرية التي شهدها الاقتصاد العراقي وهو نداء لصانعي السياسة الاقتصادية، ومنها المالية والنقدية، لتغيير البعض من تلك السياسات لتتواءم مع متطلبات مواجهة احادية الاقتصاد العراقي ودعوة لتنويع مصادر الموازنة العامة للدولة وتوظيف مواردها بشكل امثل من خلال رسم موازنات اكثر جدية تكون هادفة لتحفيز القطاع الحقيقي وخلق تنمية حقيقية، لتحقيق تحولات ترتقي بالقطاع الخاص لمواكبة متطلبات المرحلة
المقبلة.
إن كاتبنا العزيز، ومن خلال فكره النير المطلع على الكثير من خفايا صُناع القرار الاقتصادي العراقي، تمكن من خلال كتابه هذا، ان يقدم قراءة دقيقة للتحولات السياسية التي اعقبت عام 2003 وبتوافق فريد مع الظروف التاريخية التي تزامنت مع كل حقبة، فلا يسعنا الا ان نشد على يد كاتبنا واخي العزيز على حجم الجهد المبذول في هذا الكتاب وان ننتظر منه المزيد من الابداع في قادم
الايام.
* اكاديمي عراقي