عبدالزهرة محمد
التظاهرات،حق كفله الدستور، شريطة استيفائها الشروط المطلوبة، وفي مقدمة تلك الشروط، الترخيص، والسلمية، وعدم التجاوز على المال العام او الخاص .. الخ، وإلاّ عُدّت اعمال شغب... وبعد عام 2003، كانت التظاهرات طابعا سائدا في اغلب المدن العراقية، ولا تكاد تمر سنة من دون خروج تظاهرات، لاسيما في العاصمة بغداد، اذ كانت ساحة التحرير، مسرحا كبيرا لتظاهرات مليونية
، كانت في الغالب للتيار الصدري، وكانت تأثيراتها كبيرة في المشهد السياسي، و تظاهرات شهر أيار 2015، كانت هي الأبرز، بعد ان اقتحم المتظاهرون المنطقة الخضراء، شديدة التحصين، وتجولوا في اروقة مجلس النواب ،ووصلوا الى مكتب رئيس الوزراء، اذ شهدت العملية السياسية بعد ذلك التاريخ هزات عنيفة، كادت ان تحطم كل
البنيان ..
وفي تموز من العام الماضي، كانت هناك تظاهرات في الكثير من المحافظات، ولكن اشدها كان في البصرة، اذ فقدت التظاهرة سلميتها، وتحولت الى اعمال شغب،تسببت بحرق عدد من المباني والقنصليات، والمنشآت الحيوية ومنها مبنى المحافظة، الذي مازال الى الان يعلوه السخام، فضلا عن تأثيراتها على الشركات النفطية العالمية ..
ولعل، الصفة التي سادت تظاهرات الأعوام المنصرمة، كانت المطالبة بالخدمات، والكهرباء، كانت، تمثل الشرارة التي تلهب المشاعر، نتيجة تردي حالها المستمر على مدى سنوات طوال .ومنذ تموز 2018، شهد مؤشر التظاهرات تراجعا في معدلاته، نتيجة التغيير الحكومي، وما أعلنته الحكومة من منهاج وبرنامج عمل، وجرى تحديد 100 يوم، لتأشير مدى نجاحها في تحقيق وعودها التي قطعتها ضمن برنامجها الوزاري، رافق ذلك الاحتفال بالتحرير، وانطلاق عمليات اعادة الاستقرار وعودة النازحين الى مناطقهم، مع تحسن طفيف في الواقع الكهربائي، واستئناف العمل في الكثير من المشاريع.
كل تلك الأسباب أدت الى خلق حالة من الهدوء، وانتظار المزيد من التحسن في الواقع الخدمي .. ولكن، فجأة ومن مقدمات، وفي تموز 2019، عادت التظاهرات الى الظهور من جديد، ولكنها جاءت هذه المرة مختلفة عن سابقاتها، وإن كان عنوانها الظاهر، المطالبة بتحسين الخدمات، فهي قد جاءت محمولة، على “اوتوبيس” سياسي، تحت عنوان (تظاهرات المعارضة)،التي يقودها تيار الحكمة الوطني، بعد ارتقى منصة المعارضة.
معلنا بذلك بداية مرحلة سياسية جديدة، تظهر فيها قوى المعارضة بنحو واضح ..، وفي اول اختبار، لقوة المعارضة الجديدة التي مازال مفهومها غير واضح لدينا، شهدت اغلب المحافظات يوم 19 تموز 2019 ، تظاهرات، ظاهرها المطالبة بالخدمات، وباطنها، إرسال رسالة فحواها، ان المعارضة قوية، قادرة على تحديد مسارات العملية السياسية وتوجيهها نحو تحقيق أهدافها ..
وبصراحة شديدة، كانت لدى الكثيرين، هواجس قلق وتخوف من احتمال تطور تظاهرات الجمعة الى امر اخر، وخصوصا بعد المناكفات التي تابعناها بين محافظ البصرة، وبعض اركان تيار الحكمة، مع وجود سعي من قبل جهات اخرى، نحو التصعيد، ومحاولة جر التظاهرات الى مناطق الصدام، عبر خلط الأوراق، ولكن، الانضباط الكبير الذي أظهره المتظاهرون، والتزامهم بسلمية التظاهرة، وتعاونهم مع القوات الأمنية، في البصرة، وباقي المحافظات، افشل تلك المحاولات، ولا شك ان هذا النجاح، يُحسب لطرفي المعادلة، وهما، تيار الحكمة الذي نجح في ضبط أنصاره، من حيث التنظيم، والترخيص، والالتزام بالوقت، والطرف الثاني، المتمثل بالقوات الأمنية، التي كانت متميزة في تعاملها
الحضاري والإنساني مع المتظاهرين ..
ولعل النقطة التي يمكن تأشيرها على تظاهرات الحكمة، هي ان الحديث كان يجري عن خروج مليوني، ولكن الذي حدث كان مختلفا، وقد استغل الخصوم هذه النقطة، للتقليل من اهمية التجربة ومحدودية تأثيرها الواقعي .. إنما عموما، ان تجربة تظاهرات المعارضة في حلقتها الاولى، سجلت نجاحا، وأوصلت الرسالة المطلوبة.
ومن المؤكد، انهم سيأخذون بنظر الاعتبار، ماجرى في التظاهرة من تداعيات، ولكن السؤال الأهم، الذي يمكن ان يطرحه المراقبون، هل ان التظاهرات، هي الوسيلة الوحيدة للإعلان عن المعارضة ؟.. اليس للمعارضة كتلة برلمانية يمكن من خلالها الضغط على الحكومة والتأثير في المشهد سياسيا وخدماتيا، مما يؤدي الى تحقيق اهدافها بنحو افضل من التظاهرات، المحفوفة بالكثير من الاشكالات ؟
نعم،.. قد تكون تظاهرات الجمعة، عنوانا مهما لإثبات قوة المعارضة، ونعم، ايضا ان تكون ظروف الخدمات وترديها، غطاءً مناسبا لخروج التظاهرات، ولكن ليس دائما تكون كذلك، ومعنى هذا، ان المعارضة بعنوانها الصريح، بحاجة الى ايجاد عناوين ومناسبات جديدة، بنحو دائم، لكي يكون خروج التظاهرات، مقبولا، ويحظى بتعاطف وتفاعل، وربما حتى مشاركة من قبل تيارات وفعاليات اخرى، لاننا نبقى دائما بحاجة الى محركات للواقع، وأحد هذه المحركات هو التظاهرات، لاسيما اذا كانت بعنوان المعارضة، التي اجدها مهمة ، لأنها تسهم في تحريك المفاصل المتكلسة في جسد
الدولة..