طوّرت حيوانات البحر، ونباتاته، وميكروباته جملةً فريدة من المواد الكيميائية لديها من أجل الدفاع عن أنفسها ومساعدتها على الاتصال في البيئة التي تعيش فيها. ويهتم العلماء كثيراً بمعرفة المزيد والمزيد عن هذه المركَّبات الجديدة. فلماذا هذا الاهتمام والتطلّع إلى البحر، يا تُرى؟ هناك عدد من الأسباب التي جعلت الحياة في البحر تطوّر انتقاءً متميزاً من الجزيئات، كما يقول تيم نيومان في مقاله هذا.
فالحيوانات التي تلازم القاع ولا تمتلك صفائح وقائيّة، كما هي الحال مع الاسفنج والمرجان، تحتاج للعثور على طرق أخرى للدفاع عن أنفسها. وفي حالات كثيرة، تكون الكيميائيات هي السلاح الذي تختاره لهذا الغرض. فضلا عن ذلك، أن الكائنات البحرية تميل لأن تكون لها أنظمة مناعة أولية نسبياً، وبعضها يعيش في مواطن مزدحمة جداً، كالشعاب المرجانية، إذ يكون الدفاع عن أنفسها عملاً ثابتاً لها طوال الوقت.
وفي الوقت نفسه، تحتاج الكائنات الحية في المحيط إلى اجتذاب بعض الكائنات وصدّ الأخرى. كما أنها تحتاج إلى تنسيق إعادة إنتاجها عن طريق مزامنة إطلاق البيض والسائل المنوي في البيئة. وكل هذه الأمور تتطلب جزيئات بايولوجية نشطة. فالحيوانات والنباتات التي تسكن المحيط تجلس وتسبح في حمّام من البكتريا، والفطريات، وكائنات أخرى منكبّة على تحويلها إلى وجبة طعام أو إلى مأوى.
هذا التنوع في التهديدات التي تتعرض لها الكائنات المختلفة أرغم النشوء على تصعيد المعارك الكيميائية المعقدة، بشكلٍ متزايد. ويمكن لبعض المركَّبات الناجمة عن ذلك أن تكون مفيدة لنا في حربنا على المرض.
إنّ افتتان الباحثين في مجال الطب بالبحر ليس بالأمر الجديد. وأول دليل على استخدام البشر للأدوية المستخرجة من المحيط يأتي من الصين في العام 2953 قبل الميلاد. وكانت هناك، خلال حكم الامبراطور فو هسي، ضريبة على الأرباح الآتية من الأدوية المستمدة من
السمك.
وإذا قفزنا عائدين آلافاً قليلة من السنين إلى الخمسينيات من القرن العشرين، لوجدنا أن كيميائياً عضوياً يدعى ويرنر بيرغمان قام بعزل عدد من النيوكليوسادات nucleosides من أنواع كاريبية من الاسفنج تدعى Cryptotethya crypta.
وقد أوحت هذه الكيميائيات بخلق جيل جديد من العقاقير، مع علماء استمدّوا عقارين يُدعيان Ara-A و Ara-Cمن هذه النيوكليوسادات. ويستخدم الأطباء Ara-Aلمعالجة عدوى داء القوباء الجلدي وAra-C لمعالجة اللوكيميا والليمفوما.
وعلى مرّ السنين، حظيت الاستعانة بعقاقير مستمدة من المحيط باهتمام متجدد. وأدناه، عدد من الأمثلة على ذلك:
حلزون البحر السّام
فالكوموس ماغَس Conus magus حلزون بحري سام ذو حجم مصغَّر وقوقعة مزخرفة يتناقضان ومجموعته المهلكة من السموم العصبية. وصنف التسلح الكيميائي لدى هذا الحيوان اللافقري هو الكونوتوكسينات ــ وهي عائلة متغيّرة من السموم التي يستخدمها الحلزون لقتل السمك، ويستطيع أن يقتل بها إنساناً مع هذا.
وهناك الزوكونوتايد Ziconotide، وهو نسخة تركيبية من الكونوتوكسين الذي يعمل كمخفف من الألم، وهو أقوى ألف مرة من المورفين. ويمكن أن يتناوله الناس لمعالجة الألم المزمن الناجم عن حالات كالسرطان، والأيدز أو نقص المناعة/ المرحلة 3، واضطرابات عصبية معينة.
وما يزال السرطان يشكّل معضلةً بالنسبة للعلماء، رغم التحسن الكبير في وسائل معالجته، وهم منكبّون لهذا الغرض على البحث في المحيط عن كيميائيات نشطة بايولوجياً وجديدة تساعد في إيجاد العقار الشافي.
عجائب الاسفنج
يشكل الاسفنج محور اهتمام خاص للباحثين عن دواء ناجع للسرطان. ويشير إليه البعض بأنّه “بيت الكنز العقاقيري”، قائلين “لقد تم عزل نحو 5,300 منتَج طبيعي مختلف ومركَّب جديد من الاسفنج البحري بأنواعه المختلفة. وقد برهنت مثل هذه المركَّبات على أن لها فعالية مضادة للبكتريا، والفيروسات، والفطريات، والملاريا، والأورام الخبيثة وغيرها.”
البكتريا البحرية
وقد أجرى علماء آخرون فحوصاً على مركَّب يدعى سيرينيكوينون من سيرينكوكوس، وهو نوع نادر من البكتريا
البحرية.
وبيَّن العلماء أن هذا الكيميائي يمكنه أن يدمّر انتقائياً خلايا السرطان القيتاميني melanoma في المختبر. وبالرغم من كون السيريكوينون جاهز منذ وقت طويل للاستخدام لمعالجة البشر، فإنّ دراسةً في شباط من العام 2019 قد قرّبتنا خطوةً أكثر من التقدم في ذلك. وقد حدّد العلماء أقسام الجزيء التي توفّر قواه الكفيلة بمكافحة
السرطان.
والعقار الذي شكّل حتى الآن تحدياً للاختبارات الكلينيكية وجعله في الاستخدام العام هو الترابيكتيدين، المعروف بالاسم يونديليس Yondelis. ويستمد الصنّاع هذا العقار من مسنخلَص الاكتناسيديا، المعروف ببخّاخ البحر، وهو لافقري بحري شبيه بالكيس. وكان الباحثون قد حدّدوا خصائص مستخلص هذا الكائن المضادة للسرطان في أواخر الستينيات من القرن العشرين. ووجد باحثون الآن طريقةً لتركيبه وإنتاجه بكميات
أكبر.
عن / Medical news today