على إثر حرب ناقلات النفط في المضايق الدولية (هرمز وجبل طارق) انشغلت وسائل الاعلام العربية والدولية باخبار احتجاز ناقلتي النفط : البريطانية”ستينا إيمبيرو” المحتجزة قبالة ميناء بندر عباس بتهمة “عدم احترامها قانون البحار الدولي” في المضيق الذي يمر منه ثلث النفط المنقول بحرا في العالم. ، والناقلة الايرانية “ غريس1” المحتجزة من قبل مشاة البحرية الملكية البريطانية في جبل طارق بتهمة انتهاكها للعقوبات التي فرضها الاتحاد الاوروبي على سوريا.
وعلى هامش ذلك تستمر حملة العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على ايران ومن يتعاون معها تجاريا حتى لو كان من الاوروبيين، وهذه بدورها استدعت حرباً من نوع اخر جرت احداثها بصمت مريب وهي الحرب السيبرانية بين طهران وواشنطن. وتعد هذه المبارزة الالكترونية جزءا من حرب اكبر هي المواجهة العسكرية التي يخشى أطرافها المتصارعون إن وقعت فسوف تكون شاملة ومدمرة.وقد كانت منطقة مضيق هرمز والمياه الاقليمية للدول المتشاطئة في الخليج في الاشهر الاخيرة مسرحاً لاحداث التخريب والتفجير للسفن وناقلات النفط المارة فيها ، فقد شهدت هذه الساحة تعرض ناقلتي نفط سعوديتين وسفينة شحن إماراتية لعمليات “تخريبية” ، كما وقع هجوم على ناقلة نفط يابانية في بحر عمان في الثالث عشر من حزيران الماضي. وتعرضت هذه الناقلة إضافة إلى ناقلة نفط نرويجية لهجومين عندما كانتا تبحران بالقرب من مضيق هرمز.
وبالاضافة الى هذه الاحداث وقعت احتدامات اخرى بين ايران والولايات المتحدة تمثلت بعمليات مبارزة جوية في شهري حزيران وتموز الماضيين، واستناداً الى المعلومات الايرانية فإن ايران قامت في 20/6/2019 باسقاط طائرة تجسس مسيرة (درون) من طراز “غلوبال هوك” تابعة للقوات الجوية الأمريكية اثناء تحليقها على ساحل مدينة كوه مبارك فوق مضيق هرمز بدعوى انها خلال عودتها “دخلت المجال الجوي الإيراني” فتصدى لها صاروخ إيراني .
وقبل مضي شهر من هذا الحادث اعلن الرئيس الامريكي دونالد ترامب ان قواته البحرية دمرت طائرة ايرانية (درون) من دون طيار عندما اقتربت الطائرة الإيرانية المسيرة من السفينة الامريكية “يو إس إس بوكسر” أقل من ألف ياردة، مما دفع بالسفينة الحربية إلى القيام “بعمل دفاعي” أسفر عن “تدمير الطائرة الايرانية”وذلك في 18/7/2019 .
واستكمالاً لتلك الاحداث نشبت منذ بضع سنوات حرباً صامتة ما بين القراصنة الالكترونيين الايرانيين والامريكيين ، وتذكر التقارير الامريكية ان واشنطن قامت بشن هجوم سيبراني على أنظمة الحواسيب العسكرية الإيرانية فعطلتها ، وقد رد عليها قراصنة الكترونيين ايرانيين فاخترقوا منظمات امريكية وتجسسوا عليها.. وقد سبق لطهران أن نفذت عمليات هجومية سيبرانية مثل”عملية أبابيل” التي استهدفت- كما يقول مستشار الامن السيبراني والمحلل الجيواستراتيجي ميكا لوديرميلك- المؤسسات المالية الأمريكية، على اثر فرض واشنطن عقوبات على البنك المركزي الايراني، وعلى الرغم من تبني هذه العملية من “المقاتلين الإلكترونيين في كتائب عز الدين القسام” غير ان التقديرات الامريكية تشير الى ان الحكومة الإيرانية هي وراء ذلك. كما قام قراصنة الكترونيون اخرون بـ”هجوم شامون” الذي اعتبر من أكثر الهجمات السيبرانية ضرراَ ضد شركة النفط السعودية العملاقة “أرامكو” كما جرى توجيه ضربة الكترونية موجعة لمؤسسة “لاس فيغاس ساندز” الامريكية. تلك هي احداث واحتدامات جوية واختطافات بحرية وعمليات تخريبية وحروب الكترونية جرت بنحو علني وما كان خافيا من هذا الصراع فهو اعظم بالتأكيد .. دعونا نسجل بعض ما تأكد لنا من حيثيات الصراع الذي يبدو انه يتجه الى التصعيد التدريجي :
أولاً : تسبب اختطاف الناقلتين البريطانية والايرانية باشاعة جو من التوتر في المضايق الدولية التي تعتبر من أكثر الممرات البحرية أهمية في العالم مما سيؤثر بنحو كبير في عمليات نقل الطاقة فيخلق جوا امنيا مضطربا قد يسهم في تعجيل اعمال عسكرية واسعة لا تحمد عقباها.
ثانياً: اصبح مضيق هرمز والمياه الاقليمية لدول الخليج من المناطق التي تتعرض فيها الناقلات لعمليات تخريب تشير الاصابع الخليجية والامريكية الى مسؤولية ايران عنها مما يعد وجها من اوجه التصعيد في حرب فرض الارادات ما بين طهران وواشنطن.
ثالثاً : اسهم اسقاط الطائرتين من دون طيار الامريكية والايرانية في تصعيد حدة التوتر الجوي في منطقة من اكثر مناطق العالم اهمية استراتيجية، وكان بمثابة امتحان قوة ونوايا من طرفي الصراع. رابعاً : تعقيد العلاقة ما بين لندن وطهران بسبب تبادل اختطاف الناقلتين البريطانية والايرانية وبسبب قرار المحكمة العليا لجبل طارق بتمديد فترة احتجاز ناقلة النفط الإيرانية “غريس 1” لمدة 30 يومًا.. هذا التعقيد يبدو مضراً جداً لطهران لأنه يقرب بريطانيا من امريكا في المسألة الايرانية ويبعدها عن استمرار دعمها للاتفاق النووي مع طهران.
خامساً : دفعت الاحداث البحرية والجوية والالكترونية التي جرت في المنطقة الجيش الأميركي لكي يبدأ في تنظيم دوريّات جوّية ترصد منطقة مضيق هرمز، ويحشد القوات العسكرية في الخليج ويُطوّر في الوقت نفسه خطة “بحريّة متعدّدة الجنسيات” بذريعة ضمان حرّية الملاحة في الممرّات المائية .
تشير كل تلك الاحداث الى امرين لا ثالث لهما وهما : الاول التصعيد المستمر الذي ينتهي بتواجه الاسلحة كلها وفي كامل المنطقة مما سيؤدي الى الدمار بكل اشكاله العسكرية والاقتصادية والانسانية . والثاني هو ان سياسة حافة الهاوية التي تستخدمها واشنطن وطهران قد تؤدي في نهاية المطاف الى التسوية المطلوبة والتي ستبدو لا مفر منها لكون اضرار المواجهات العسكرية اكبر بكثير من مكاسبها وبخاصة عندما يحتسبها رجل اعمال مثل دونالد ترامب الذي تولى الرئاسة الامريكية بمفاهيم مغايرة عمن سبقوه تتعلق بالصفقات والمضاربات والربح والخسارة أكثر مما تتعلق بالسياسات الاستراتيجية والتحالفات ومكانة بلاده بين الامم.