كثيراً ما نتكلم عن ضرورة تكريس دولة المؤسسات، وأنْ نعمل بجهدٍ لتثبيتها وإقرارها استناداً الى الدستور والنظام الديمقراطي الذي ننادي به، ومن المعروف إنَّه في الدولة الحديثة لا توجد مؤسسة واحدة ولا سلطة واحدة وإنما سلطات كلٌ منها تمارسُ عملها بواسطة مؤسسة دستوريَّة. هناك سلطة تشريعيَّة تتمثلُ بمؤسسة البرلمان، وهناك سلطة تنفيذيَّة تمارسها كل المؤسسات التنفيذيَّة، وهناك سلطة القضاء تمارسها المحاكم على اختلاف أنواعها. وكل سلطة من هذه السلطات تمارسُ اختصاصاً ضمن المحددات التي رسمها الدستور، فاذا هي خرجت عن هذا الاختصاص المحدد كان خروجاً غير مشروع. وبذلك لا يستطيع أحد التدخل في اختصاص أيٍ منها لأنَّ الدستور وزع الاختصاصات وحدد لكل مؤسسة اختصاصها وجعل المشروعيَّة مقرونة بالاختصاص القانوني، وهذا هو جوهر فكرة دولة المؤسسات. والمؤسسات وفق هذا النظام ثابتة وباقية، فيما الأشخاص الذين يمارسون سلطة المؤسسة باسمها وفي حدود الدستور متغيرون وزائلون، إذ إنَّ المؤسسات في الدولة الحديثة هي أجهزة الدولة للقيام بوظائفها واختصاصاتها في الإطار الذي يحدده الدستور والقانون ويعهد الى أشخاصٍ معينين لممارسة تلك الوظائف والاختصاصات باسم المؤسسة وليس باسمهم الشخصي.
وإذا ما حاولنا تطبيق هذا الواقع الدستوري على مؤسساتنا اليوم سنجد أننا طبقنا الشطر الثاني من الفكرة الدستوريَّة لكنْ بطريقة لا تعتمد فكرة التغيير نحو الشخص الأفضل أو الأكثر تميزاً وإنتاجاً وعطاءً، بل على العكس تماماً أحياناً، إذ تم استبدال كفاءات وخبرات جيدة مع خروج رئيس المؤسسة من عمله بأشخاص أثبت الواقع التطبيقي أنهم أقل خبرة وإنتاجاً ممن سبقهم وإنَّ الاستبدال حصل نتيجة فكرة المحاصصة والتحزب والعلاقات الشخصيَّة والمحسوبيات والفساد الإداري، وهذا ما يتعارض تماماً مع فكرة دولة المؤسسات وبنود الدستور التي كرسته!!
فهل الخلل جاء نتيجة الأسباب التي ذكرناها فقط أم إنه استفحل نتيجة عدم تحقيق فكرة الشراكة الحقيقيَّة التي تجعل المسؤول عن المؤسسة يعتقد أنَّ الكرة التي جاءت الى ملعبه قد لا تعود ثانية وأنَّ عليه أنْ يحققَ أقصى استفادة ممكنة من الزمن المتوافر أمامه الآن وبالاعتماد على من يعتقد أنهم يحققون ديمومة بقائه ويمهدون السبل لتحقيق كامل الطموح الذي رسمه في ذهنه وهو ينادي بدولة المؤسسات ويعمل في ذات الوقت على تقويض أسسها بطريقة صريحة أو مستترة لكنها في كل الأحوال لا تحقق لمجتمعنا لا النماء ولا الاستقرار ولا مبدأ المساواة بأخذ الفرص، ولا الإنجاز الأمثل، والدليل حجم الفساد وسوء الخدمات وضخامة المصروفات وشح الإيرادات من الحقول غير النفطية، وبقاء واقع البنى التحتية للدولة متآكلة وغير قادرة على تفعيل مفهوم الاستخدام الأمثل للإنتاجيَّة الفرديَّة والجماعيَّة التي بواسطتها ينهض العراق بطاقاته الخلاقة وثرواته الوفيرة.
دولة المؤسسات التي نريدها عليها ألا تكون متأرجحة بين رغبات السياسيين، بل على مرتكزات استقرار المجتمع الذي يعرف كيف يطور مؤسساته دائماً ولا يلغي خبراته ليتسبب ببطالة أصبحت مسؤولة عن أغلب الملفات السلبيَّة التي تنخرُ الواقع العراقي بكل إصرار.