نصير فليح
من يتابع الموقف الاوروبي من قضايا عالمية رئيسية (وعلى رأسها ما يجري في منطقتنا) سيجد ان اهم ما يتميز به هو الغموض والتردد. ولا عجب في ذلك، فبعد مجيء ترامب الى السلطة امست سياسة اوروبا على المحك في مجالات عدة، ليس اولها الموقف من القضايا الدولية السياسية البارزة، وليس اخرها تحديد الخيارات الاقتصادية امام العقوبات التي شملت عدة دول مثل روسيا والصين وايران وفنزويلا، فضلا عن التضارب الاقتصادي بين اوروبا نفسها والولايات المتحدة في اكثر من ملف، بما فيها ملف التجارة والرسوم الجمركية بينهما، كما حدث مع فرنسا مؤخرا.
وما يعنينا بوجه خاص هو منطقتنا (وتأثر بلادنا بما يجري فيها) لا سيما مواضيع التطورات بشأن ايران والخليج وحرية الملاحة واحتمالات التصعيد. ففي مشهد عالمي كالذي يجري الان فان للموقف الاوروبي اهمية خاصة، ليس لانه موقف منسجم وحاسم، وانما لانه، رغم تذبذبه وتردده، اشبه ببيضة القبان التي يمكن ان ترجح احتمالا على اخر: النزوع الى السلم او الذهاب الى الحرب، تخفيف التوترات الاقتصادية والعسكرية العالمية او تصعيدها، مزيد من الفجوة مع روسيا والصين او مزيد من التقارب. فالموقف الاميركي من جهة، ومناهضو سياسة الولايات المتحدة من جهة اخرى (مثل روسيا والصين وكوريا وايران)، مستقطبان بشكل يبدو لا امل في تقريبه في المدى المنظور، ومن هنا يمكن لتغيير ملموس في الموقف الاوروبي، حتى لو كان بسيطا، ان يكون حاسما في توجيه الاحداث باتجاه معين دون سواه.
ومما يزيد الموقف الاوروبي ترددا هي الاوضاع الداخلية فيها نفسها. فبريطانيا في مخاض طويل منذ اعوام بشأن الانسحاب من الاتحاد الاوروبي (بريكست)، وهو ما افضى بمجيء رئيس وزراء جديد الى بريطانيا بعد استقالة تيريزا ماي، واذا اضفنا الى ذلك التوتر الناجم عن احتجاز السفن المتبادل بين بريطانيا وايران، فان الوضع يبدو مختلفا بالنسبة لبريطانيا عن بلدان اوروبية اخرى مثل المانيا وفرنسا، التي لاتزال في منطقة اكثر حيادا تجاه الموضوع الايراني، واقل ميلا الى الذهاب باتجاه التصعيد. وعليه فان دعوات تشكيل قوة دولية لحماية الملاحة البحرية في الخليج العربي، سواء جاءت من الولايات المتحدة ام من بريطانيا، لا يبدو انها ستجد استجابة منسجمة أيضا.
جانب آخر للاهمية الخاصة للموقف الاوروبي من الموضوع الايراني هو ان هذا الموضوع يمكن ان يتطور الى نزاع عسكري مباشر بسهولة، كما ان ما يترتب على حركة الملاحة في المنطقة لا سيما في ما يخص موضوع النفط ومصادر الطاقة له انعكاسات سريعة متوقعة على العالم، بما في ذلك بلادنا. لكن الاجتماع الاخير الذي جرى في فيينا (4+1) الذي شمل مختلف الاطراف التي شاركت في الاتفاق النووي باستثناء الولايات المتحدة (التي انسحبت منه رسميا) يؤكد حالة الغموض هذه. ففي الوقت الذي اعلنت الاطراف المختلفة تمسكها بالاتفاق النووي، فان اية اجراءات محددة بشأن تمكين الالتزام والاستمرار به لم تطرح بوضوح، وهو ما انعكس بالنتائج الباهتة التي تمخض
عنها.
فهل سيظل الموقف الاوروبي بهذا اللاوضوح؟ والى متى؟ سؤال ربما لن نجد الجديد فيه الا مع الانتخابات الاميركية المزمعة في العالم المقبل، وما يمكن ان يترتب على نتائجها على المستوى العالمي، بما في ذلك تحديد المواقف الاوروبية. هذا اذا لم تفرض الوقائع والاحداث نفسها على الارض، قبل ذلك التاريخ، باتجاه مواقف أكثر
حسما.