متى نشطب صدام من ذاكرتنا ؟

آراء 2019/08/18
...

زهير كاظم عبود 
 بعد حقبة زمنية مريرة كان فيها الحاكم فردا مستبدا ومزاجيا ونرجسيا قابضا على جميع السلطات، وشرع نصا دستوريا يبيح له كل أفعاله ،  وهناك من يعمل على تبرير أفعاله وتجميل قراراته وتزويق توجهاته ، واستعمل اساليب غاية في القسوة والعنف والشدة ، مجسدا شخصية الدكتاتور والطاغية المستبد ، وعرف عنه سريع الغضب والانفعال ، ويطلق أحكامه دون تعقل او روية ، فخرب حياة العراقيين الداخلية، ثم تسبب بحروب كارثية أكلت من الشباب والأموال بين قتيل ومعاق وأسير ، وبين يتيم وثكالى وأرامل وتسبب بحصار أهلك الناس وأضر بالعباد ضررا بليغا  ، حتى لاحقته القوات الأجنبية ومن ثم قبضت عليه في جحر الفئران ، كانت الناس تخشى من انفلاته وهروبه من السجن ، حتى  تم تنفيذ الحكم بإعدامه شنقا ، زالت حينها غيمة كالحة  عن النفوس كانت ترعبها ، ومع كل تيقنا من هلاك الدكتاتور فلم تزل بعض القلوب راجفة وقلقة  من اسمه وواجلة فازعة  من ذكره .      
ومرت سنوات عديدة على اعدام الطاغية ، الا اننا لم نزل نتذكره فتنقبض أرواحنا ، وتهرب مسراتنا .    
 متى ننسى اسم  صدام   بعد أن تيبست  آثار مخالبه وأنيابه في أجسادنا  ؟ 
متى نستعيد أنفاسنا فنزيح كابوسه من هواجسنا وكوابيسه من  أحلامنا ؟ متى نشعر بعافيتنا من جراحه ونمسح  ونكسر دمائنا اليابسة ،  ونلم  أيامنا وشبابنا وثروتنا  من بعثرتها ،   نريد أن نلغي زمن الحروب والعنجهيات والانتصارات المزيفة ونعود الى حياتنا الأليفة والطيبة . 
كيف لنا أن نلغيه من ذاكرتنا وأن نشطبه من زماننا  بعد كل تلك المرارة  ؟  وأن لاندع تأثير الخوف من الاسم  ينتشر  داخل أرواح أطفالنا  الذين باتوا يرسمون له صورا بشعة ومخيفة ، كيف نتمكن أن نرميه من أيامنا القادمة  ؟ فنحن على أعتاب زمن عراقي  جديد دون طاغية  ، وطن خالي  من كل منغصات الحياة وعوائق الروح  لا نخشى فيه تقارير الأمن  والوكلاء وتلصص المخابرات  وأقبية الأمن الخاص ، ولا نخاف من أن ننتقد شخوص الدولة ونتظاهر ونعارض بكفالة 
القانون .
كيف نجعل الأطفال يلغون من ذاكرة طفولتهم  البريئة كلمة مرعبة  كانت تخيفنا وترعبنا ، وزمن رديء اسمه الزمن الصدامي ؟  وأن نتخلص من  كل ما يرتبط بهذا الزمن  البائد  من السلبيات بصلة ، حتى نجعل الناس  يعيشون أياماً خالية من الموت والرهبة والرعب والاعتقال والزنازين والأنفاق والظلمة والليل والأقفال وخوف السؤال والحروب  والتلفت يمينا ويسارا  .
كيف لنا أن نمسح  اسم صدام البائد  من ذاكرة نساؤنا بعد أن كن  يرتعبن من مجرد ذكر الاسم  ؟  وهن اللواتي ذرفن الدموع في ليالي الصمت والوحشة والوحدة ، وهن يتطلعن الى السماء يناجين الله سرا في صلاتهن  من ظلم الحاكم وماحل بالعراق  ، وهن اللواتي يكتمن خوفهن وأسرارهن وترقبهن عودة أولادهن وأزواجهن كل يوم  فتيبست الدموع وتحجر الخوف في الروح فصارت تسابيحهن وتمنياتهن صامتة  ، الأسئلة المحتارة في العيون دون كلام ، وذل السؤال ومعرفة أن كان المتهم حيا أو ميتا ، مجهول القبر او جثة مدفوعة ثمن موتها ، ومجهولة المكان والزمان .
علينا أن ننسى  ونمسح اسم  صدام الذي أحال وطننا  وزماننا الى جحيم ، وحول دروبنا الى طرق موحشة ومدننا الى مقابر مفتوحة ، وثقافتنا الى مسرحية هزلية نحن ممثليها ومتفرجيها ، وبيوتنا ممتلئة بصور الشهداء والغائبين دون ان نتعرف على قبورهم ،  يجب أن  ننسى ونمسح الاسم من ذاكرتنا المرهقة والممتلئة بالوجع والألم  !! آن  لنا أن نرميه بعيداً عنا  فلا ننقل ما جرى لنا الى عقول أطفالنا خشية عليهم من العقد الدفينة التي غلفت عقولنا  وتركت فينا عقدا وأمراضا نفسية دفينة . 
حين كان الحزن يتلبس أرواح أهلنا تتوجه  أمهاتنا  الى قبور الأولياء والى قبور الأهل في المقابر القصية ، ينحبن قريباً منها ويتخلصن من حالة الكبت والانقباض بالبكاء المرير أو بنشيج صامت ينبع من عمق الجسد الواهن  ، فترتاح الروح ويتخفف عبء النفس ، وحين يرجعن الى مطحنة أيامهن تعود كل محنة العمر تكلكل أيامها فوق ما ترسب من حزن في أرواحهن المتعبة ، فتستحيل الوجوه النظرة الجميلة الى هرمة وأكلها الزمن وعصرتها السنين العجاف وعفرها الزمن بالأنين  فصارت كالحة مثل عباءاتهن .
هل نستطيع أن ننسى ؟؟ وأية نعمة وهبها الله لنا أن ننسى كل هذا المتراكم الهائل من الوجع والدماء والموت الذي كنا نستنشقه مع الهواء  ونعيشه يوميا  . 
ومع أن الزمن كفيل للمساهمة  بالنسيان   ، وهو عامل مساعد للإنسان يساهم في نزع الصورة السيئة من الذاكرة ، لكننا نريد أن نستعجل هذا النزع من الذاكرة فلا نجعل للأسم قدرا  والحالة التي ألغت زماننا العراقي وعطلت بهجة أعمارنا  وصادرت  ابتسامة أطفالنا وغيرت لون السعف وزرقة السماء غير قيمتها التافهة ، وحولت دروبنا وضفاف انهارنا الى اماكن موحشة  .
عليكم أيها الشعراء أن تلغوا من ذاكرتكم اسماً لا يليق بشعركم ولا ينسجم مع تموجات بحوركم وموسيقاها ، عليكم يا كتاب القصة القصيرة والرواية أن تشطبوا على الاسم من مدوناتكم لئلاً تجعلوا دماملاً من القيح الأسود بين سطور قصصكم الجميلة   ووحشاً يفترس كل صوركم  الجميلة  ، أيها الفنانون أشطبوا الاسم من لوحاتكم وجدارياتكم لئلا تصير ألوانكم هجينة لالون لها ولالغة لها وأرسموا لنا ورداً عراقياً من كل الأوان الزاهية  . 
أيها الفلاحون أشطبوا الاسم من الذاكرة وتمعتوا في زرعكم وأرضكم .
   أيها العمال أشطبوا الاسم من ذاكرتكم  فأنه سيرحل خارج الذاكرة و  خارج مكان العمل حيث لا تجانس بينهما  فيذهب جفاء .
أيها الزمن العراقي القادم أهلاً تعال الينا  نعيش حياة مليئة بالأحلام ، لا تشرخها لحظات الوهم والجنون والموت والرصاص والقبور والدماء مع أسم الطاغية  ، دع أحلامنا ملونة  مثل قوس قزح يرقص فيها أطفالنا على نغمات موسيقانا الشعبية ،  حتى تكون أناشيدهم أهازيج للفرح الملون القادم ،  أرسموا  معنا صلواتنا ودعواتنا  وطقوسنا نمارسها  بحرية كاملة في جوامعنا ومقاماتنا وأضرحتنا وكنائسنا  ، نصفق لمسارحنا الخالية من كل هجين  .
دعونا سوية ننسى الاسم فلا نردده شفقة لمشاعرنا وأحاسيسنا وزماننا الجديد ، دعونا نتفق أن لا نردد الاسم لئلا نستعيد جزء من ذاكرة الزمن الذي ضاع منا  ، وعمر انزلقت أيامه مثل الرمل من بين أصابعنا .
دعونا ننسى الاسم حتى لا نهرس أرواح أمهاتنا وشيوخنا ، وأن لا نجعل جثث أطفالنا المدفونين مع أمهاتهم تفز وجلة من بشاعة الاسم .
دعونا نشعل شموع الزمن الجديد والأيام القادمة التي لاتكون الا خالية من الأسلحة فمنع أطفالنا أن يلعبوا بها ، فلم تعد تتناسب مع هذا الزمن مع كل سلبياته . 
دعونا ننزع الاسم من تاريخ هذا العراق الجميل فلا نجعل النخل يرتعد وشجرة الجوز تسقط حملها قبل الأوان ويمتنع الرمان أن يزهر  ، دعونا نتمعن قليلاً أليس لنا أن نترك الاسم بعيداً عن التاريخ العراقي ننتزعه انتزاعا ونقلعه كما نقتلع الفالول من الأيادي الصحيحة ونرمية بعيداً عنا ؟ 
دعوا الاسم فقد أتعبنا وأرهقنا حينما كان يمتص من دمنا وأرواحنا ، وبات حتى بعد صريره يخدش الذاكرة ، ولن نتغلب على كل هذا الا بشطبه من ذاكرة كل هذا 
العراق . 
سيكون اسمه مكتوبا في ثنايا الذاكرة التاريخية مدرجا ضمن قائمة الملوثين والمجرمين والسفاحين الطغاة ، وستذكره كتب التاريخ بما يستحقه ، لكننا لا نريده ان يلوث أحلام أطفالنا ، ولا نريده أن يلوث أيامنا القادمة التي نحلم بها .