الدولة العراقية .. المصالح وعشوائية السياسة

آراء 2019/08/20
...

علي حسن الفواز
 
مايحكمُ العالمُ هي المصالح، ومايجعلها فاعلةً وحقيقيةً هي الطرقُ والوسائلُ التي تُدار بها تلك  المصالح، هذه الثنائية تبدو أكثر دينامية في السياسة، عبر ادارتها، أو عبر توظيفها في التعبير عن المصالح، أو في عمليات التحوّل الاجتماعي والاقتصادي، وحتى عبر دورها في سياق تنفيذ التنميات الكبرى، إذ لا تنمية بدون مصالح، ولا تنمية ناجحة بدون ادارة 
ناجحة...
بعد مرور أكثر من ستة عشر عاما على التغيير، والسلطة العراقية تبحث عن مسار واضح لمصالحها، ولادارتها، وحتى لتنميتها، فتعقّد هذه الملفات، وتشوش مسارتها أسهم الى حدٍّ كبير في تعويق مشروع(الدولة الوطنية) وفي تغييب أيِّ تأطير عقلاني ومؤسساتي وحتى حقوقي لفكرة(العقد الاجتماعي) للجماعات العراقية، إذ كان الفشل في ادارة المصالح الوطنية، وتضخم ظاهرة(الصراع االاهلي) ونشوء مظاهر حادة للعنف والارهاب والتكفير تعبيرا اجرائيا عن تشظي وتشوه تلك المصالح، وشيوع أنواع غرائبية من الثقافات العصابية والجماعوية، والتي وجدت للاسف في ضعف الادارات السياسية والامنية والاقتصادية مجالا حاضنا لنماذجها المُشوهة.
 
المصالح وثقافة الدولة.
لا تعني المصالح تفسيرا محددا، ولا أفقا يربط وجودها بوجود رأسمالين صغار، أو كبار، أو تحويل الدولة الى مؤسسة بنوك عائمة لا هوية لها، بقدر ما يعني وجود تنظيم فاعل يجمع بين الادارة السياسية مع الادارة الاقتصادية، مثلما يجمع بين عقلانية الدولة وبين النظام الحاكم لثرواتها ولمؤسساتها، وعبر وجود برامج ومشاريع وخطط تنموية وبشرية، وسياقات عمل تكفل أنظمة التعليم والخدمات والصحة والمصارف والاستثمار 
وغيرها.
لقد بات من غير المقبول الاستمرار في سياسة العشوائيات، وفي التفريط بالمصالح، مقابل هيمنة غير عقلانية لمراكز غير دولتية، والتي ستؤدّي بالتراكم الى تحويل العراق الى دولة عاجزة، أو دولة انقاذ ريعية، فغياب الستراتيجيات الكبرى والتنميات الكبرى تحوّل الى ظاهرة معقدة، لها انعكاستها على مستوى البناء الهيكلي للدولة، أو على مستوى مواجهة التحديات الجيوسياسية التي تعصف بالمنطقة وبالعالم، والتي ستجعل من مفاهيم المصالح والادارة والتنمية والهوية أمام اشكالات تداولية، قد تفقد فيه قدرتها على المواجهة، أو الانخراط في صراعات وأزمات لها علاقة بمصالح الاخرين أكثر من علاقتها 
بمصالحنا.
إن الحديث عن ثقافة الدولة يرتبط بالحديث عن الافكار والسياسات والبرامج التي ينبغي أنْ تُدار بها الدولة، وعبر تأمين الأطر والاليات الحمائية التي تجعلها أكثر استشرافا للمستقبل، ولتجاوز عُقد الفشل الذي ارتبطت بها ادارات الحكم السابقة، فالعراق الريعي لايمكن أن يظلّ ريعيا، واقتصادات النفط ليس آمنة دائما، مثلما أنّ سياسات(الجماعة الغالبة) ليست عقلانية، ولا رهان حقيقي 
عليها..
فشل الدولة القديمة هو فشل في تلك السياسات، وفي ضعف البنى الديمقراطية، وفي رثاثة نظامها الاقتصادي الذي كرّس الريعية من جانب، وخرّب الاقتصادات المحلية من جانب آخر، وبما جعل المصالح كلها خاضعة للسلطة الديكتاتورية، ولسياساتها العشوائية التي حوّلت العراق الى بلد حروب وطوارىء، والى بلد خدمات عامة للاخرين، مما تسبب وبإفراط غرائبي في ضياع الثروة، وفي تشوّه المصالح الوطنية، وفي انهيار النظام الاجتماعي والسياسي، ولتداعياته التي تسببت باحتلال العراق عام
 2003.
عقد الفشل السياسي لم تتحول- للأسف- الى درس واقعي، لتجاوز عقدة التفريط بالمصالح، وللعمل على تحويل النظام الديمقراطي الجديد الى نظام عقلاني، يقوم على فكرة الدولة المنتجة، والعابرة للريعية، بل إن ماحدث، وخلال سنوات تعاقب الحكومات العراقية اسهم في تحويل العراق الاقتصادي الى بلد يقوم على غلبة(الدولة الريعية) بالكامل، والى بلد(موظفين) يستنزفون الموازنة الوطنية، وبطريقة غير انتاجية، مقابل تعويق واضح ومريع لبرامج الاستثمار والتنمية والاقتصادات المحلية، ولاعادة انتاج(الطبقة الوسطى) والتي فقدت تاريخيا، ومنذ عقود دورها الكبير في البناء الوطني سياسيا واقتصاديا 
وثقافيا.
 
المصالح والثروة والمراجعة.
إنّ ثروات العراق الكبيرة وموقعه الجغرافي المهم يتطلبان حضورا سياسيا كبيرا، لأنّ السياسة تعني هنا القوة في الادارة، وفي التعبير عن المصالح، وفي حمايتها وتوسيع مدياتها، وهذا بلا شك يفترض وجود برامج ل(ادارة القوة) وسياقات عملها، وخططها، والياتها، فضلا عن وجود مراجعة دائمة لما جرى، ولما يمكن أن يجري
، وعلى وفق اسس علمية ومهنية
، ف(ادارة الثروة الريعية) تحتاج الى تلك القوة اولا، مثلما تحتاج الى السياقات الوظيفية ثانيا، والى مايجعلها فاعلة في تحسين صورة العراق الجديد ثالثا، والى النظر بمسؤولية واقعية الى تاريخ الهدر غير المسؤول لتلك الثروة رابعا، فمئات المشاريع العاطلة والمتلكئة، والاستمرار في سوء ادارة برامج الخدمات
، مقابل تضخم الفساد بكل مستوياته تعكس تدهورا حقيقيا في مواجهة تحديات المستقبل من جانب، وفي الحفاظ على الثروة والمصالح من جانب 
آخر.
واقعية المواجهة لاتعني الذهاب الى السوداوية
، بل ماتعني احداث صدمة الخطر، والى ضرورة ادراك اهمية العمل المؤسسي، والتأطير القانوني للمؤسسات التي تحمي المصالح، واعتماد سياقات الحوكمة في ضبط مدخلاتها ومخرجاتها، فما يحدث عندنا هو هيمنة عدوى العشوائية السياسية على الجسد الاقتصادي، وبالتالي سنجد أمامنا بنى اقتصادية(مسروقة) وعليلة، وفاقدة للجدوى والاهمية
، وغير قادرة على أن تكون بمستوى التعبير عن المصالح والهوية، وعن الدولة 
ذاتها.