زعماء من كوكب آخر!

آراء 2019/08/21
...

محمد الحداد
في الذاكرةِ الانسانية نماذجُ ايجابية كثيرة لزعماء مثاليين عشقتهم شعوبهم بصدق لأنهم صنعوا دولاً قوية وقدّموا لهم انجازات حقيقية. سيمثلُ أمامي فوراً رئيس الأوروغواي السابق “خوسيه موخيكا” المعروف برئيس الفقراء الذي اختارَ لنفسهِ حياة التقشف والزهد والبساطة..ومَن يتابع تفاصيل حياته سيُصاب بصدمةٍ حقيقية.. هذا الرجل بدأ بنفسهِ وجعلَ منها درساً مجانياً للآخرين ومثالاً حياً يُقتدى به.. لم يمتلك “موخيكا” أبداً أية حسابات بنكية وكان راتبهُ الرئاسي يبلغ  1250  دولاراً فقط ظلَّ طوال فترة حكمهِ يوزع 90 % منهُ للفقراءِ عن طريقِ الجمعيات الخيرية..رغم أنهُ كان يعيشُ حياةً تشبهُ حياتهم تماماً في منزلٍ قرويٍّ متواضع ظلَّ يسكنهُ حتى بعد أن أصبحَ رئيساً للبلاد لأنهُ رفضَ أن يسكنَ القصرَ الرئاسي..وكان يتوجهُ إلى عملهِ سيراً على الأقدام من دونِ حراس..أو يقود أحياناً سيارتهُ الشخصية القديمة والمتهالكة من ماركة فولكسفاغن طراز 1987!
وبمجرد ان أنهى “موخيكا” عام 2015 سنوات ولايته الرئاسية الخمس حتى غادرَ كرسي الرئاسة فوراً رغم أنهُ كان بوسعهِ أن يستمرَ في الحكم لغاية عام 2020.. كما رفضَ أيضاً أن يتقاضى من الدولة راتباً تقاعدياً.
لفتتني جداً فلسفة “موخيكا” وأسلوبهُ الذي انتهجهُ في حياتهِ حينما قالَ مرةً بلقاءٍ تلفزيوني:”أنا لست فقيراً.. فالفقراء يحتاجون الكثير من أجل العيش وأنا لا أحتاجُ لهذا الكثير لأعيش.. أنا فقط شخصٌ متقشف..  أعيشُ بنفسِ الطريقةِ التي كنتُ أعيشها طوال حياتي.. في نفسِ الحي والمنزل.. الأغلبية صوتتْ لي.. ولذا أنا أنتمي إليهم ولا يحق لي أخلاقياً أن أعيشَ مثلَ الأقلية “يقصد الأغنياء”.. أما بخصوص ثراء السلطة فلموخيكا فلسفته الخاصة أيضاً إذ يقول: ”السلطة لا تغيّرُ الأشخاص.. هي فقط تكشفهم على حقيقتهم.. كثيرون يحبونَ المال.. ولكن لا يجب أن يوجدَ أمثال هؤلاء في السياسة”!
وأنتَ تتأملُ قصة “موخيكا” هذهِ وتستمعُ لمنطقهِ المثالي ستنسى للحظاتٍ أنهُ رئيسُ دولة.. وربما لن تصدقونني لو أخبرتكم أنني سائلتُ نفسي: هل سمعَ “موخيكا” يوماً بزهدِ علي بن أبي طالب الذي خرجَ من الحُكمِ ومن الحياةِ برمّتها كما دخلهما أولَ مرة.. خاليَ اليد والجيب من كلِّ متاعِ الدنيا وكنوزها وبهرجتها؟ أتراهُ سمعَ بعدالةِ عمر.. أو ورع عمر بن عبد العزيز.. أو تقشف أبا ذر؟ لا أخال ذلكَ قطعاً.. إذن من أين لهُ بكلِّ هذهِ الحمولة الأخلاقية الراقية التي جللتْ حياتهُ وأفعالهُ وأفكارهُ؟من أين استوحى مبادئها الانسانية الراقية؟يقيناً هو لم يطّلع على ما فعلهُ رموزنا العِظام ولا يعرفُ حتى أسمائهم..لكنهُ فعلَ مثلما فعلوا 
تماماً!
ثم هل لنا هنا أن ننسى “دا سيلفا” الذي انتشلَ البرازيل من قاعِ الفقرِ والتخلفِ وقيودِ الاقتراض وحلّق باقتصادها إلى ثامنِ أقوى دولةٍ باحتياطيّ ماليّ بلغَ 200 مليار دولار؟ هذا الرجل الذي عشقهُ شعبهُ قضى سنوات رئاسته السبع التي يتيحها لهُ الدستور ولم يزدْ عليها ساعة واحدة.. ويومها خرجَ الشعبُ كلهُ إلى الشوارعِ لوداعه .. ثم وقفتْ حشودهم أمامَ قصرِ الرئاسة مطالبة ببقائهِ في الحكم حتى لو تطلبَ الأمرُ أن يُعدّلَ الدستور كي يسمحَ لهُ بهذا..لكنهُ قالَ لهم وهو يبكي: “لا أستطيع فعل ذلك”.. ولأكونَ دقيقاً فقد بكى “دا سيلفا” ثلاثَ مراتٍ في خطابِ الوداعِ هذا وكانت لحظات مؤثرة جداً..بكى أولاً حينما تذكّرَ طفولتهُ البائسة وقصة كفاحه الطويل الذي أوصلهُ إلى كرسي الرئاسة..وبكى ثانية وهو يستذكرُ خسائرهُ الثلاثة بالانتخابات وقال أن الفقراء لم يكن لديهم ثقة فيَّ..لكن حبي للشعب دفعني للنجاح”.. ثم بكى ثالثة حينما استعادَ لحظاتِ فوزه بانتخاباتِ الرئاسة قائلا “لولا الرب لما كان لرجلٍ فقير هربَ من الجوع أن يصبحَ رئيساً..فأنا ‏ابن الطبقة الكادحة وأتعهدُ بأن أبقى في شوارع البرازيل لأساعدَ الناس”.‏
وهل يمكننا أن ننسى مثلاً رئيسة تشيلي “ميشيل بشليت” التي شاهدَ العالمُ كلهُ اللحظات المؤثرة لخروجها من قصرِ الرئاسةِ بصعوبةٍ وسطَ تجمهرٍ شعبي كبيرٍ ودّعَها بالدموعِ والزهورِ والهتافاتِ مطالبين اياها بالبقاءِ بالسلطةِ أيضاً ؟
حينما تركت ميشيل منصبها كانت تتمتعُ بشعبيةٍ عالية مع سجلٍّ نظيف خلا من أيةِ ملفاتِ فساد..وسجلتْ لبلدها طفراتٍ اقتصاديةٍ كبيرة وانجازاتٍ متعددة أهمها ترسيخ مبادئ الديمقراطية وسط بلدٍ كان يرزخُ لعقودٍ تحتَ وطأةِ الظلمِ والقمعِ والاستبدادِ وانتهاكِ حقوقِ الانسان.
أيحقُّ لنا أن نُسميَ هؤلاءِ الزعماء بالغرباءِ الأنقياء في زمنِ عَفَنِ السياسةِ وقذارتها لأنهم جعلوا المستحيل ممكناً فعبّدوا بالحب دروباً أفضت فوراً لقلوبِ شعوبهم؟ وهل يمكن لبعض شعوبنا المنكوبة بزعمائها أن ترتقيَ بآمالها وتحلّقَ في سماءِ أحلامها البعيدة فتحظى يوماً بزعيمٍ يُحدّثُ شعبهُ عمّا فعلهُ حقاً لا عمّا سيفعله؟ أعني أن يُحققَ لهم على الأرض أحلامهم المستحيلة حتى من قبل ان يفكروا بها ؟