صيدليات زمن العولمة ..

آراء 2019/08/23
...

حسين الذكر
اغلب الحنين للماضي لم يعد يمثل ذاكرة مترسخة في أعماق العقل الباطن بل ثمة وقائع سيئة وتراجعات خدمية تجعل المقارنة تستبطن الحنين .. كلنا نتذكر أيام السبعينيات على سبيل المثال ، كانت تذاع الصيدليات الخافرة بوسائل الاعلام بكل منطقة توجد اثنتان منها او ثلاث مرخصة رسميا كانها دائرة حكومية في الشكل والنظام المتبع .. اذ لا يباع الدواء الا عبر وصفة الطبيب المختص مختومة بمهره ومحددة بتاريخه ، لا تباع الا والاسعار واضحة مدعومة من قبل الحكومة متوفرة بين يدي المواطن لاسيما الفقير
 منه . 
اما ما يحمل منها جنبة ذات خطر مجتمعي كالمواد المنومة او المخدرة او السامة ... فلا يمكن صرفها اعتباطا وكيفيا ابدا بل ذلك يعد من المحال .. كما ان أصحاب الصيدليات اكثرهم كانوا يتعاطون مع المراجعين بإنسانية اكثر من كونها مهنة تجارية
 بحتة . 
كنت ابحث عن دواء كتبه الطبيب .. وحدد لي الصيدلية . فقررت ان اكسر قاعدة احتكار بعض الأطباء لصيدليات وتحليل واشعة وسونار ... وكانهم اذرع شركة ربحية لا ملائكية فيها .
 لذا شمرت ساعدي واطلقت العنان لقدماي ابحث عن الدواء في العاصمة التي أصبح عدد صيدلياتها ينافس محال الملابس ومطاعم الفلافل وبيض ودهن في المحلات الشعبية وعلى الماشي بعربات خشبية .. فدخلت اول صيدلية فقال هذا الدواء لا يوجد عندنا ، مشيرا الى تلك التي حددها الدكتور وكانه يعرف اين يضع علاجه ، ثم ذهبت الى اخر فقا لي : الوصفة بما يعادل خمسين دولارا .. وبما ان الخمسين دولارا عملة عصية على المثقف والصحفي والفقير العراقي
 لذا قررت البحث عن منفذ آخر ، فوجدت احدهم قال بأربعين دولارا .. وأخرى بثلاثين دولارا .. الى ان وقعت بالمصادفة عند صيدلية ، ما ان رآني صاحبها حتى قال محدقا بي : ( اهلا أستاذ تحياتي حبيبي كيف انت عسى ان تكن بخير .. انا من متابعيك وعشاقك في البرامج وما تكتب بالصحف ) فاستبشرت خيرا .. وهمهمت : ( لقد حصلت على الدواء ) .. ناول الوصفة لمساعد له فدخل مخبأ ما .. وعاد قائلا : هذه الوصفة غير متوفرة .. فرد عليه الدكتور : ( يا اخي توا جئت به افتح الشليف – هو كيس من القش يستخدم عادة لنقل القطن والملابس والاقمشة والخضراوات ... – وستجده.. فاحضر المقص وذبح الشليف من الوريد الى الوريد ليخر كم كبير من
 الادوية..) .
 فقلت سبحان الله ، قبل عشرات السنين كانت الادوية تنقل وتعبأ بأفضل العلب المحكمة والمفحوصة والمختومة بمهر المؤسسة المعنية وبصلاحيات لا يمكن ان - يخر منها المية – كما يقول المثل العربي الجميل ..  ثم جاء بها الدكتور المعجب بكتاباتي فقال :
 ( استاذنا العزيز هذه سعرها ستين دولارا ، لك واعتزازا بك ولخاطرك هات خمسين دولارا فقط .. ثم لاحظ عبس وجهي فتدارك مسرعا قائلا : هذه عشرين آخرى كي لا تزعل فالمتبقي ثلاثون ) ..
 بصراحة وبيني وبينكم .. احمررت خجلا من نظر بقية الزبائن وانا أستاذ ونافخ ريشي .. لذا قررت دفع المبلغ وامري لله .. وقلت بنفسي دواء بالشليف الديمقراطي يشبه وزيرا كان عريفا في العهد
 الدكتاتوري ) .