العدو الوهمي

آراء 2019/08/24
...

عبدالامير المجر 
 
من الغرائب التي حدثت في الحروب، انه في العام 1788وبينما كان الجنود النمساويون في مواقعهم، خلال حربهم مع الاتراك، اخذ بعضهم يحتسون الخمر ليلاً وبعد ان انتشوا، صرخ  احدهم بعبارة، تسببت بكارثة، وكانت الصرخة ( هجم علينا الجيش التركي).. وهكذا راح الجنود النمساويون يطلقون النار على بعضهم، ظناً منهم، انهم باتوا في اشتباك مع العدو .. بعد ان انجلى الغبار، وتفقد النمساويون بعضهم، وجدوا ان عدد القتلى في تلك الكارثة،  كان عشرة آلاف جندي !!
 عشنا وشهدنا، نحن شعوب الشرق الاوسط، مراحل صناعة العدو الوهمي، لاسيما في العقدين الاخيرين،  اذ لم تأت هذه المعطيات المرة اعتباطا، او مصادفة، بل كانت نتيجة لعبة دولية محكمة، الهدف منها، إشغال الدول بضرب بعضها البعض، تحت مسوغات متعددة. فتخويف الصغيرة بالكبيرة، جاء بعد ان فتحت الدول الكبرى، وبمكر، اكثر من باب امام  الكبيرة للتوسع، فجعلت الصغيرة تخاف وتتحسب من القادم، وعلى وقع هذا العداء المصنّع تحولت المنطقة الى خزّان اسلحة، استوردت بمبالغ فلكية، وتعززت هيمنة الدول الكبرى المستفيدة من هذه اللعبة التي انطلت، ليس على البلدان الصغيرة وحدها، بل على الكبار الاقليميين، ممن توهموا، ان بامكانهم ان يسيطروا على  تلك الدول  ويخضعونها، تحت اقنعة عقائدية وسياسية معينة... الاخطر في هذه اللعبة، ان العدو المشترك للكبار الاقليميين  والصغار معا، المتمثل باسرائيل، والذي كان يوحد خطابهم السياسي في الاقل، باتوا اليوم جميعا ضعفاء امامه، بفعل استحقاقات المواجهة المكلفة بينهم، والتي استنزفتهم جميعا، اقتصاديا وسياسيا ونفسيا ايضا.. لقد لجأت بعض الدول الى اميركا واذعنت لما تريده منها، لاسيما في موقفها من اسرائيل، واخرى اتجهت لروسيا وغيرها للاستقواء بها لمواجهة الاميركان، فالخطر الوهمي تحوّل الى حقيقة! وصدّقت حتى الشعوب ذلك، لان الاقوياء الاقليميين، لم يحسبوا حسابا لتعبئة شعوب الدول الصغيرة وتوظيف قدراتها المالية الكبيرة ضدهم، بل ذهبوا الى تعزيز هذه القناعات لديها من خلال تصعيدهم الخطاب العقائدي واشاعة روح الانقسام الطائفي والسياسي، وبذلك اصبحت مساحة التخندق اوسع بكثير مما كان يحلم به الاميركان والاسرائيليين او حتى ببعضه، قبل عقدين او ثلاثة، والسبب هو عدم قراءة الجميع لحساسية الشرق الاوسط وخرائطه الحمراء التي لاتستطيع اية قوة اقليمية ان تتلاعب بها، وتحت أي مبرر، عقائديا كان او سياسيا، وان الكبار في العالم، جميعا متفقون على حساسية هذه المنطقة وعدم تركها لمزاج شعوبها الثقافي، يقرر مواقفها السياسية، وهو مايجب على أي سياسي شرق اوسطي ان يعرفه.
لقد خسرت اغلب انظمة المنطقة فرصة بناء علاقات سياسية مبنية على الثقة المتبادلة، وانشغلت بمشاريع مستحيلة التحقق، لتجد نفسها جميعا تخوض في هذا المستنقع، ولعلها ادركت هذه الحقيقة اليوم، ولكن بعد فوات الاوان، وبعد ان صنعت تداعيات العداء الوهمي، عداء حقيقيا تصعب ازالته في المستقبل القريب!
هل عرف النمساويون من اطلق تلك الصرخة الكارثية ؟  ليس مهما هذا، فالكارثة حلّت، وهي اقل من كارثتنا بالتاكيد!