عدالت عبدالله
أقل ما يمكن للمرء إدراكه في معرض تمييزه بين الوطن والمواطن، هو ما يمليه القدر الإلهي على الجميع بأي سبب كان، و”لكل شيء سبب” كما نعلم أو كما هي المقولة التي أُخذت من آية قرآنية: “وآتيناه من كل شيء
سبباً”.
عنيت هنا أن للإنسان قدر لا محالة، هو الموت والفناء، أما قدر الأرض فهو الدوام والبقاء الى يوم القيامة والى ساعة النفخ في الصور، وهذا يعني بجملة: أن الوطن باقٍ والأشخاص زائلون، ولايختلف الأمر في ما يتعلق بالعراق أيضاً، إذ يظل البلد دوماً أكبر بكثير من قادته وسلاطينه، أو ملوكه وحكامه، لأنه باقٍ وقائم حتى اليوم، أما أولئك الذين يحكمونه فسوف يزولون وينتهون كما كان ذلك حال كل من حكم البلاد من قبلهم!، وهذه الحقيقية البديهية، هي بحد ذاتها، تمثل دوماً عبرة لكل من يتطلع حقاً الى القطيعة من الماضي السياسي، لاسيما مع الحقبة البعثية (1968 - 2003 م) التي أهلكت البلاد والعباد بكافة مكوناتها: الشيعة والسنة، العرب والكرد وكل طائفة أو أقلية لم ترضخ لإرادة الدولة الشمولية التي قام عليها البعث في العراق.
بعبارة أخرى، ان القيمة الرمزية للوطن تكمن في هذه القدرية التي تُبقيه هو حياً وتزيل كل مَن عليه مِن المحسنين والمسيئين معاً، والأهم من ذلك، تتمثل في الذاكرة التي يُكَوّنها الوطن من الأحداث والتجارب التاريخية، وينقلها من جيل الى جيل، مخبراً بها الناس عما كان يفعله الطغاة والأشرار بالعباد وما كان يقدمه المُحسنون والخادمون للبلاد.
الوطن يبقى لكي يحكي لنا حكاية الدهر ويزودنا بالخبرة والذاكرة والمعرفة، لا سيما لِمَن يروم التعلم من التاريخ ويبغي تجنب تكرار المساوئ والمظالم التي أوقعت البشرية في الظُلُمات ومهالك الحياة.
وهذا يعني، من جملة ما يعنيه، أن الوطن ليس بجغرافيا سياسية فحسب، وإنما هو أكثر من ذلك بكثير، أنه شيء مركب من كل ما يتعلم منه الإنسان لكي يكون في النهاية مواطناً صالحاً، كما أنه ثلاثي الأبعاد يُجسد الذاكرة والخبرة والمعرفة في آن معاً، فضلاً عن أنه يلعب دور الشاهد على حِقَب التاريخ المعني بمسيرة الإنسان ومصيره، وعليه، فلا يمكن أن يفلت منه أي شيء، أنه كالصندوق الأسود، الذي يُدَوّن لنا كل ما يحدث من دون اللجوء الى المؤرخين التابعين للسلاطين!، أو الذين يشوهون الحقائق والوقائع التاريخية ويكتبون بما يمليه عليهم الحُكام، وإنما يحقق ذلك من خلال كل من أستبعدهم المُتَحكم بالدهر، أي أولئك الذين همشوا على مر التاريخ وأضطهدوا وحرموا من حقوقهم الإنسانية، والذين هم بطبعهم لاينسون الماضي أبداً، لأنه بالنسبة اليهم هو التاريخ بعينه! طالما التاريخ على حاله من دون تبديل وتغيير، يسيطر عليه الطغاة ومن يرثهم سياسياً دهرا بعد دهر، كما كان الحال مع عراق الانقلابات السياسية والثورات الدموية الى يوم سقوط الصنم.