تحذيرات دولية من معاودة أنشطة «داعش» في العراق وسوريا

قضايا عربية ودولية 2019/08/27
...

ترجمة / انيس الصفار   إيريك شمدت وإليسا روبن وتوماس غيبونز نيف*


بعد مرور خمسة أشهر على طرد القوات التي تدعمها أميركا تنظيم “داعش” الارهابي من آخر أشبار من الأرض له في سوريا ها هي الجماعة الارهابية تستجمع قواها مجدداً لتقوم بهجمات في مختلف انحاء العراق وسوريا بأسلوب حرب العصابات، الى جانب ترميم شبكات تمويلها واستهداف مجندين جدد من داخل مخيم يشرف على ادارته التحالف، هذا هو ما يقوله اليوم مسؤولو استخبارات وعسكريون أميركيون وعراقيون.
 

لقد هلل الرئيس ترامب مستبشراً بالهزيمة الكاملة التي لحقت بتنظيم “الدولة الاسلامية” في هذا العام، رغم ذلك يتأمل مسؤولو الدفاع في المنطقة الأمر بنظرة مختلفة، فهم يعترفون بأن بقايا الجماعة الارهابية موجودة وستبقى.
يحذر تقرير حديث للمفتش العام من أن خفض عديد القوات الأميركية هذه السنة، بناء على أوامر من الرئيس ترامب، من 2000 عنصر الى أقل من نصف هذا العدد معناه أن الجيش الأميركي سيترتب عليه تقليص الدعم المقدم الى قوات الشريك السوري الذي يقاتل “داعش”. أقصى ما تستطيع القوات الأميركية والدولية عمله حالياً هو السعي لاحتواء بقايا “داعش” وابقائها بعيداً عن المناطق المدنية.
ليست هناك من اسباب تدعو للقلق من استعادة “الدولة الاسلامية” بنيتها القديمة، خلافة قارب حجمها ذات يوم حجم بريطانيا كانت تتحكم بحياة ما يصل الى 12 مليون انسان، بيد أن الجماعة الارهابية لا تزال قادرة رغم هذا على حشد ما يصل الى 18 ألفا من بقايا مقاتليها في العراق وسوريا. هذه الخلايا النائمة وفرق الاغتيال قامت بهجمات قنص وكمائن واختطاف واغتيالات ضد قوات الأمن وقادة المجتمع البارزين.
لا يزال بوسع “الدولة الاسلامية” أن تسحب الاموال من خزانة حرب كبيرة قد يصل حجمها الى 400 مليون دولار مخبأة في العراق وسوريا أو قد تكون هرّبت الى بلدان أخرى مجاورة لحفظها في مكان أمين. من المعتقد أيضاً أن لدى الجماعة استثمارات في بعض ميادين الأعمال مثل مزارع السمك ووكالات بيع السيارات وزراعة الحشيش. كذلك تستخدم “داعش” اسلوب الابتزاز لتمويل عملياتها السرية، وفي شمال العراق تعرض المزارعون الذين رفضوا دفع ما يفرض عليهم لإحراق محاصيلهم وإبادة حقولهم بالكامل.
على مدى الاشهر العديدة الماضية تمكنت “داعش” من شق منافذ خفية لها الى داخل مخيم مترامي الاطراف في الشمال الشرقي من سوريا، حيث لا تتوفر خطة جاهزة بعد للتعامل مع نحو 70 ألف شخص يقيمون هناك بينهم ألوف من افراد عوائل مقاتلي “داعش”. يقول مسؤولو المخابرات الاميركيون ان مخيم الهول هذا، الذي تديره قوات من الحلفاء الكرد السوريين بقدر ضئيل من الدعم والأمن، قد استحال الى عش تفريخ للفكر الداعشي وارض خصبة هائلة لتوليد ارهابيي المستقبل.
تحتفظ قوات الكرد السوريين المدعومين من الولايات المتحدة أيضاً بأكثر من 10 آلاف مقاتل من عناصر “داعش”، بينهم نحو 2000 مقاتل أجنبي، في سجون مؤقتة منفصلة.
ورد في تقرير المفتش العام، الذي اعدّ لوزارة الدفاع الاميركية ووزارة الخارجية والوكالة الاميركية للتنمية الدولية، أيضاً ما يلي: “أن عجز الكرد السوريين في مخيم الهول عن توفير ما لا يكاد يرقى الى الحد الادنى من الاجراءات الأمنية في المخيم قد سمح بتوفر الظروف المناسبة بلا منازع لنشر الفكر الداعشي هناك.” وقد أفضت القيادة المركزية للجيش الأميركي الى كاتبي التقرير المذكور بأن “من المحتمل أن تستغل داعش ضعف الاجراءات الأمنية في المخيم لتجنيد اعضاء جدد بالاضافة الى اعادة لملمة عناصرها السابقين الذين تركوا ارض المعركة.”
يخلص تقييم اجرته الأمم المتحدة مؤخراً الى النتيجة ذاتها فيقول ان أقارب المقاتلين الذين يقيمون في الهول يمكن أن يتحولوا الى خطر ماثل ما لم يجرِ التعامل معهم بالشكل المناسب، على حد تعبير التقييم.
هذا النسق من التوجهات، التي يتحدث عنها العراقيون والاميركيون ووكالات المخابرات والمسؤولون العسكريون الغربيون، والموثّق ايضاً في سلسلة من التقييمات الحديثة التي قامت بها الحكومات والامم المتحدة، يعكس لنا صورة “دولة اسلامية” آخذة بالنهوض من جديد، ليس في العراق وسوريا فقط بل على امتداد تفرعات ايضاً تتغلغل في غرب افريقيا وسيناء. هذه النهضة سيكون لها خطرها على مصالح أميركا وحلفائها إذ تسعى ادارة ترامب لخفض اعداد جنودها في سوريا والتركيز على المجابهة التي تلوح نذرها في الشرق الأوسط مع إيران.
في مقابلة اجراها معها مركز محاربة الارهاب التابع لأكاديمية “ويست بوينت” هذا الشهر قالت “سوزان رين”، الرئيس السابق للمركز البريطاني المشترك لتحليل الارهاب: “مهما يكن مبلغ الضعف الذي بلغته داعش الان فإنها لا تزال حركة عالمية، ونحن معرضون للتهديد على نطاق العالم، لذلك علينا ألا نشعر بالبغتة ازاء ما سيأتي مستقبلاً.”
من المؤشرات المهمة التي تشير الى عودة “الدولة الاسلامية” حجم الذخائر الحربية التي اسقطتها الطائرات الأميركية في العراق وسوريا خلال الاشهر الأخيرة. فوفقاً لبيانات القوة الجوية الأميركية فان عدد القنابل والصواريخ التي القتها الطائرات الأميركية في شهر حزيران كان 135، وهذا يفوق ضعفي ما اسقط في شهر أيار.
يقول مسؤولو الدفاع في المنطقة ان “الدولة الاسلامية” تتخندق حالياً في المناطق الريفية غالباً وتقاتل بشراذم لا يتعدى عدد افراد الشرذمة منها 12 مقاتلاً مستغلة الحدود الرخوة بين العراق وسوريا، بالاضافة الى الحدود غير الرسمية بين كردستان العراق وباقي انحاء البلد، حيث تنتشر القوات الأمنية انتشاراً يضعف تماسكها وحيث يحتدم التنازع احياناً بشأن الطرف المسؤول عن توفير الأمن العام في تلك المناطق.
بالنسبة للعراقيين الذين يسكنون المحافظات الشمالية والغربية، حيث كانت “الدولة الاسلامية” نشطة في الماضي، لا يزال الشعور بالتهديد ماثلاً لأن الهجمات تباطأت وانحسرت ولكنها لم تتوقف أبداً. خلال الأشهر الستة الأولى فقط من هذه السنة كان هناك 139 هجوماً في تلك المحافظات (نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى والانبار) قتل جراءها 274 شخصاً. معظم القتلى كانوا من المدنيين، ولكن كان هناك ايضاً ضحايا من القوات الامنية وقوات الحشد الشعبي، وفقاً لتقارير قوات الامن العراقية وشهادات المدنيين التي تمكنا من جمعها.
من الحوادث الهمجية بشكل خاص، والتي لم يشهد لها مثيل منذ كانت “داعش” تسيطر على تلك الانحاء من شمال العراق، حادثة وقعت في مطلع شهر آب حين أقدم رجال مسلحون يدعون الولاء لـ”داعش” على عملية قطع رأس علناً بحق رجل شرطة في احدى القرى الواقعة جنوبي مدينة سامراء في محافظة صلاح الدين، التي لا تبعد عن بغداد سوى ساعتين شمالاً.
شهدت تلك المنطقة ايضاً هجمات متكررة على مدى السنتين الماضيتين، وتلقى عناصر الشرطة الذين يسكنون تلك القرية إنذارات بترك عملهم في جهاز الشرطة. معظم هؤلاء العناصر، مثلهم مثل علاء أمين محمد المجمعي، وهو رجل الشرطة الذي ضربت عنقه، يضطرون للعمل في القوات الأمنية بسبب قلة الوظائف، عدا الزراعة وهي موسمية وبعض أعمال البناء.
اختطف رجل الشرطة المذكور ليلاً حين اصطحب شقيقه وذهبا لتفقد أرض عمهم بعد انتهاء دوامه، كما يقول اخوه ساجد وآخرون من الاسرة. خرج على الشقيقين خمسة رجال، كان بعضهم ملثمين، وقبضوا عليهما ثم اقتادوهما الى مخزن مهجور وراحوا يستجوبونهما حتى موعد صلاة الفجر.
عندئذ قالوا انهم سيخلون سبيل ساجد ولكنهم أمروه بأن يخبر أهل القرية بترك العمل مع قوات الشرطة.” بعد ذلك قطعوا رأس علاء أمين وتركوا جثته في مزرعة عمه.
بذا اصبح علاء أمين الضحية 170 من قتلى الشرطة على يد مهاجمين من “الدولة الاسلامية” في تلك المنطقة، كما يقول الرائد زوبع المجمعي مدير احد افواج الطوارئ العاملة في مناطق جنوب سامراء.
خلال الشهر الحالي قتل ايضاً في مناطق شمال العراق عنصر مغاوير المارينز الأميركي الرقيب المدفعي “سكوت كوبنهافر”، 35 عاماً، خلال عملية مع القوات المحلية. مغاوير المارينز هم قوة خاصة تقاتل في كثير من الاحيان، عند نشرها في العراق، الى جانب البيشمركة الكردية أو مع قوات العمليات الخاصة العراقية.
أشر مقتل الرقيب أول حادثة لهذه السنة يقتل فيها جندي أميركي اثناء المعركة. وفي شهر كانون الثاني لقي أربعة أميركيين مصارعهم في حادث تفجير بمدينة منبج السورية.
تقارير مثل هذه تحتل مكانها في العديد من التقييمات الرصينة التي تحاول استقراء مدى فعالية “داعش” وقدرتها على التحمل والمطاولة. حيث أفاد تقرير نشر في تموز أعده محللون في الأمم المتحدة مرتبطون بهيئة مكافحة الارهاب التابعة لمجلس الأمن أن قيادات “الدولة الاسلامية”، برغم الهزيمة العسكرية التي حلت بهم في سوريا والعراق، آخذون بالتكيف وتقوية تماسكهم وخلق الظروف التي تمكنهم من النهوض مجدداً في نهاية المطاف.”
كذلك خلص تقرير جديد أعده المفتش العام في تقييم نشاطات “داعش” للفترة الواقعة بين شهري نيسان وحزيران الى أن الجماعة “آخذة بالنهوض والعودة في سوريا” كما “أعادت توطيد إمكانيات نهوضها في العراق.” على حد تعبير التقرير.
رغم هذه التقارير بقي ترامب ينسب الفضل لنفسه في الحاق الهزيمة التامة بتنظيم “الدولة الاسلامية”، متجاهلاً بذلك التحذيرات المتكررة التي تبعثها اجهزة مخابراته ومسؤولوه في اجهزة مكافحة الارهاب التي تفيد بأن “داعش” لا تزال قوة فتاكة ينبغي الحذر منها.
في الشهر الماضي صرح ترامب قائلاً: “لقد قدمنا انجازاً باهراً، إذ حققنا النصر على الخلافة مئة بالمئة وها نحن ننسحب سريعاً من سوريا. سوف نخرج من هناك عما قريب وليتدبروا هم حل مشاكلهم، سوريا قادرة على التعامل مع مشاكلها والى جوارها إيران، الى جوارها روسيا، الى جوارها العراق، الى جوارها تركيا.. أما نحن فبعيدون عن المنطقة بمسافة سبعة آلاف ميل.”
بوجود 5200 جندي في العراق، وأقل من 1000 جندي في سوريا، بقي دور الجيش الأميركي في البلدين من دون تغيير تقريباً رغم الهزيمة التي لحقت بالتنظيم على الأرض في البلدين.
بعد سقوط مدينة باغوز، التي كانت تمثل آخر معاقل “داعش” القوية في سوريا قرب الحدود مع العراق، تفرق المتبقون من مقاتلي الجماعة في شتى انحاء المنطقة لكي يبدؤوا ما يطلق عليه المسؤولون الاميركيون الان تسمية “التمرد طويل النفس”.
“الدولة الاسلامية” مجهزة تجهيزاً جيداً، كما يقول المسؤولون، ولكن قيادتهم تصدعت الى حد بعيد، الأمر الذي يبقي معظم الخلايا بلا توجيه من قياديين أعلى مرتبة. كذلك ذهبت أيام العز حين كان التنظيم قادراً على انتاج القنابل والالغام والذخائر والاسلحة محلياً وبكميات كبيرة.
تغيير “الدولة الاسلامية” تكتيكاتها أجبر الأميركيين والقوات الدولية الاخرى على تغيير تكتيكاتهم هم ايضاً لضمان التمكن من خوض حملة من حروب العصابات ضد متمردين ينطلقون من بين اوساط السكان المحليين ثم يعودون للاندساس بينهم.
في العراق نفذ الجيش مدعوماً بقوات مكافحة الارهاب عدة حملات ضد التنظيم، وكان التركيز بالدرجة الاساس على نقطة التقاء المحافظات كركوك ونينوى وصلاح الدين، وهي منطقة تلال وصخور تعرف باسم جبال مكحول.
أما في سوريا فقد تراجعت وتائر العمليات بدرجة ملحوظة رغم استمرار تواجد مقاتلي “الدولة الاسلامية”. يقول احد مسؤولي الدفاع الذي عاد مؤخراً من هناك انك في أغلب الاحيان ترى جنود القوات الخاصة التابعين للجيش، وكذلك افراد القوات التقليدية، رابضين في نقاطهم لفترات طويلة لا ينطلقون منها إلا بين الحين والحين لملاحقة مقاتلين لـ”داعش” من المراتب الدنيا مختبئين في القرى القريبة.
يضيف هذا المسؤول أن احد أكبر التحديات يتمثل في استمرار نقل وتحريك الجنود الاميركيين الى سوريا ثم اعادتهم منها في محاولة لإبقاء مجمل تعداد اولئك الجنود دون 1000 جندي، وفق النشر الرسمي. بل ان الجنود في بعض الاحيان يؤتى بهم الى سوريا لتنفيذ مهام معينة بالتحديد ثم يعادون، على حد قول المسؤول.
يقول “كولن بي كلارك” الزميل الأقدم في مركز سوفان، وهي منظمة أبحاث تعنى بشؤون الأمن على صعيد العالم، ومؤلف دراسة جديدة لمؤسسة راند تتناول تمويل الدولة الاسلامية: “حين يجتمع ذلك كله بسحب الجنود الاميركيين ستتوفر الظروف المناسبة لداعش كي تستعيد جيوباً من الارض وتكره الأهالي المحليين على تنفيذ ما تريده منهم.”      
* عن صحيفة نيويورك تايمز