صادق كاظم
الحنين الى زمن الطغاة المجرمين الذي يتم تناوله بكثرة انما يعكس في الواقع تصدعا في الذاكرة الجمعية وعجزا مزمنا عن اجتراح الحلول وتجاوز الواقع الذي يشهد الكثير من نقاط الضعف والخلل الذي بات يسبب معاناة مزمنة يقابلها قصور واضح في المطالبة بترميم الوضع واصلاحه والذي لا يعني باي حال من الاحوال العودة الى حكم الطغاة الدمويين من رموز نظام البعث الاجرامي الذين ارهقوا البلاد وشعبها بالحروب والمجاعات والعقوبات الدولية وتحويل العراق الى بوابات شرقية للدفاع عن الاخرين وخوض الحروب بالنيابة عنهم .
23 عاما استغرقها حكم نظام البعث ورمزه المقبور الذي افتتح نظام حكمه بحلبة دم رومانية اطاحت برؤوس اكثر من نصف ما كان يسمى بالقيادة القطرية ومجلس قيادة الثورة المنحل بينما كان الطاغية المقبور يوجه الشتائم لهم وهو ينفث دخان سيجارته الكوبي معلنا عن عهد خطير قادم من الخوف والرعب والدم وفاتحا ابوابا من الجحيم استمرت لاكثر من عقدين من الزمن,حيث لم ينتظر اكثر من عام قبل ان يدخل الطاغية في حرب لا مبرر لها بزعم درء الخطر الايراني رغم ان ايران كانت في ايلول من العام 1980 لا تملك جيشا او حكومة حتى وكانت منشغلة بترميم وترتيب وضعها الداخلي قبل ان تفكر في شن حرب على العراق لا تبدو هي بحاجة اليها اصلا . تحولت الحرب الى كابوس قاتم وثقيل اطاح بمعظم الانجازات التي تحققت في فترة سبعينيات القرن الماضي وبدلا من ان يمضي العراقيون اياما جميلة في المصانع والجامعات وملاعب الرياضة اصبحت الجبال والصحارى والوديان قبورا مفتوحة تضم رفات مئات الالاف منهم ونفس المأساة تكررت بعد غزو الكويت التي جعلت العراق بلدا ضعيفا ومهزوما ومحاصرا وفاقدا للسيادة .
هل يحن الحالمون بعودة النظام البعثي الاجرامي الى زمن الحروب والمجاعات والفقر والقائد الضرورة الذي كان يحتكر ساعات البث التلفازي لنفسه من اجل ان يسمعنا المذيع نشرة عن ترهات وتخاريف وهلوسات كان الطاغية يعتبرها حكما يلقيها على مسامعنا كل يوم ,اضافة الى مشاهد عن بطولات مزيفة لحمل البنادق واطلاق النار في الهواء وهي كلها اختفت يوم تم العثور عليه مختبئا في حفرة ومن دون ان يطلق رصاصة واحدة على المحتل .
كان الطاغية لا يؤمن بتطور العالم وتقدمه , بل كان مصرا على تحول العراق في عهده الى سجن كبير انتعشت ظواهر الفساد والرشوة في عهده كثيرا , بل ان اقاربه والمحسوبين عليه اخذوا يفتحون مكاتب لتقديم الخدمات للمواطنين مقابل مبالغ مالية ضخمة وهي كانت تتم بعلم الطاغية وموافقته والذين لم يكتفوا ايضا بذلك ,بل اصبحوا يلاحقون رجال الاعمال ويبتزوهم من اجل دفع الاموال لهم والا سيتم قتلهم بذريعة العداء للنظام , فضلا عن تهريب الاثار واللوحات الفنية المسروقة من اصحابها الذين كان النظام يغض البصر والعدسات الامنية عنهم . كان التجنيد انتحارا وبؤسا لاصحابها وكان على المواطن ان يمضي ثلث عمره بين تادية الخدمة في الجيش الرسمي والجيوش الرديفة الاخرى وملاحقة مفارز الانضباط والامن والفرق الحزبية .
كانت ثقافة الوشايات وكتابة التقارير والتجسس على الافراد من الامور التي غرسها النظام في عمق المجتمع العراقي من اجل تدميره واخضاعه .لم تكن هناك شبكات انترنت او هواتف نقاله او صحون لاقطة ,حيث كان النظام يعتبر مثل هذه الوسائل تهديدا خطيرا لامنه . صحيح ان الامن كان متوفرا ,لكنه كان اولوية للنظام ومرتبطا بأمنه الشخصي اولا لكن ذلك لم يمنع من وجود سجل مرتفع من جرائم القتل والتسليب والسرقات وخصوصا السيارات وقتل اصحابها . لم تكن هناك حرية صحافة او احزاب او حرية راي حتى وقد سجن واعدم الاف من المواطنين لانهم انتقدوا النظام وسياساته وتصرفات الطاغية المدمرة بحق العراقيين.
هناك اخطاء رافقت عملية بناء الدولة بعد عام 2003 ابرزها سياسة المحاصصة التي اصبحت اكبر عائق امام تقدمها وتطورها ,فضلا عن تدخل الاحزاب في عمل مؤسسات الدولة وادارتها وارتباط قسم منها بظاهرة الفساد التي تسببت في اهدار اكثر من 400 مليار دولار حرمت العراقيين من محطات الكهرباء والسكن اللائق وفرص العمل الكريم وغيرها من الفرص المهمة التي كانت ستحدث نقلة نوعية في حياة الشعب العراقي . الحنين الى الدكتاتورية وايامها ومقارنة ايامها بالوضع الحالي امر يعكس هروبا وضعفا وياسا ,اذ ان اعرق الدكتاتوريات والحريات في العالم مرت بفترات انتقالية تدرجت فيها من الفوضى والضعف الى الاستقرار والثباتية وصولا الى مرحلة المؤسسات والقانون وهي المرحلة التي يجب ان نصل اليها لنغادر مرحلة الحنين المزمن الى الماضي بكل اوجاعه وماسيه والتطلع الى المستقبل لبناء دولة حديثة ينعم مواطنوها بالامن والعيش الكريم من دون فساد او فوضى او ارهاب.