نصير فليح
اذا كان العالم في مختلف اجزائه، بما في ذلك عالمنا العربي، يتحول الى الديمقراطية بالتدريج، كما تشير الى ذلك الوقائع الفعلية والتقارير الدولية، فان الوجه الاخر للعملة، اي العدالة الاجتماعية، أمسى وعيا يزداد تغلغلا في عقول الناس وقلوبهم، لا سيما في المجتمعات التي تعاني من المشاكل الاقتصادية والمعيشية المتراكمة والمزمنة.
البلدان الاكثر تقدما لها معاناتها ايضا في المشاكل الاقتصادية، كما يطفو على السطح بين اونة واخرى، وكانت اخرها موجات الاحتجاجات في فرنسا التي عرفت باسم “السترات الصفر”. لكن في بلدان مثل العالم الثالث المتأخر، والتي ينسحق فيها الانسان بين قطبي الرحى: الاستبداد من جهة، والفساد والتدهور المعيشي من جهة اخرى، فهناك وعي يتنامى باضطراد بين شعوبها بانه من دون تسلح التطلع الديمقراطي باسلحة فعالة ضد شبكات الفساد والنفوذ، فان الخطوة ستظل ناقصة، او نصف خطوة
بالاخرى.
ان ما نعانيه في بلدنا بعد اكثر من خمسة عشر عاما على بداية التحول الديمقراطي شاهد عيان على ما نقول. وحيث ان للشعوب العربية مشتركاتها ليس في التاريخ واللغة والعقائد فحسب، بل مشتركاتها في سيوف الفساد والاستبداد المسلطة على رقابها من عقود وربما قرون، فان التطورات الاخيرة التي اندفعت الى السطح في بلدان مثل الجزائر والسودان تلقي ضوءا جديدا على المشكلة، بعد ان تعاقبت المخاضات منذ ايام ما عرف “بالربيع
العربي”.
التغيير في رؤوس الانظمة ورؤوس اهرامها لم يعد مقنعا ولا كافيا لاحتواء غضب عالي الموجات متطلع الى افاق جديدة. ورغم ازاحة بوتفليقة والبشير من قيادة سفن السياسة والحياة في الجزائر والسودان على التوالي، فان الوعي العام ادرك على الفور بان هذا ليس كافيا مطلقا، وان صعود العسكر بديلا لا يهدد بخنق التطلع الديمقراطي والحياة المدنية فقط، بل بابقاء الطبقة المتنفذة في مواقعها وشبكات نفوذها، فهي دولة اخرى داخل الدولة، لا يكفي التخلص من راس الحكم لاضعاف اذرعها او لموتها
التدريجي.
وهنا تصل المراهنة بين الاطراف الى نقاطها الفاصلة: اما باللجوء الى قمع واسع للتحركات الشعبية، كما حدث في السودان في ساحة الاعتصام بالخرطوم، او في مطاولة على طول النفس بين القوى الشعبية من جهة وقبضة العسكر من جهة اخرى، كما يحدث في الجزائر.
وبينما لا تزال بلادنا عاجزة عن تحقيق تقدم فعلي في النهوض الاقتصادي والمعيشي، نتيجة ما افرزته التوازنات السياسية من محاصصة ومراكز قوى، فان بلدا كالسودان، بعد التوقيع على اتفاق سياسي هام حول مستقبل البلاد بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، ستواجهه عقبات جديدة من نوع جديد، والشيطان كما يقال يكمن في التفاصيل. فهل ان العسكر والقوى المتنفذة القديمة مستعدة فعلا للتخلي عن امتيازاتها؟ وماذا عن السؤال المهم الذي يظهر بعد كل تحول من هذا النوع، أي الموقف من محاسبة المسؤولين في نظام البشير او محاكمة المسوؤلين عن فض الاعتصام؟ عندها لا مناص أن يعود ليُّ الاذرع الى طاولة السياسة او السلاح مجددا، وإن كان بتوازنات جديدة وسياقات
جديدة.