الأزمة النوويَّة الإيرانيَّة.. كيف انتهتْ الى هنا؟
قضايا عربية ودولية
2019/08/31
+A
-A
ديفد دي كرباتريك
ترجمة: انيس الصفار
أيّدت الوكالة الدولية للطاقة النووية مؤخراً أنّ إيران قد استأنفت تخصيب اليورانيوم الى مستويات أعلى من المسموح لها به وفق اتفاقية العام 2015 التي وقعتها الولايات المتحدة والقوى الكبرى الأخرى في العالم. هذه الخطوة تقرّب إيران تدريجياً من امتلاك القدرة على صنع قنبلة نوويّة.
كانت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب قد قطعت على نفسها عهداً بمنع إيران من تطوير مثل هذا السلاح، وقد أخذ تصاعد التوترات يحدث هزات في المنطقة واسواق النفط. في الشهر الماضي كانت الولايات المتحدة على وشك ضرب إيران لولا صدور قرار بالالغاء في الدقيقة الأخيرة.
فيما يلي نظرة سريعة توضّح كيف بلغت الأمور بين إيران والولايات المتحدة هذا المبلغ من المواجهة.. وما الذي يمكن أن يحدث بعد ذلك.
كيف بدأ هذا كلّه؟
كان الرئيس الأميركي السابق "باراك أوباما"، مثله مثل زميله الحالي ترامب، يلقي ظلال الشك على تأكيدات المسؤولين الايرانيين الذين يقولون إنّهم لن يسعوا للحصول على قنبلة نووية أبداً. والواقع أن كلتا الادارتين الاميركيتين جعلتا مسألة منع إيران من الحصول على القنبلة أولوية بالنسبة لهما، ولجأت كلتاهما الى استخدام مزيج من الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية والتهديد بالقوة العسكرية، ومن الواضح أن تهديدات ترامب كانت أكثر خشونة وفظاظة، فقد تضمنت إمكانية "محو" اجزاء من إيران.
ما الذي فعلته إدارة أوباما؟
حاول الرئيس السابق أوباما التعامل مع البرنامج النووي الإيراني بمعزل، من دون التصدي للشكاوى الأخرى من سياسات إيران، مثل سعيها لتطوير صواريخها البالستية ودعمها الجماعات المسلحة في دول اخرى ضمن المنطقة (مثل لبنان وسوريا والعراق واليمن، وحتى غزة الواقعة الى الغرب من الاراضي الفلسطينية).
يبدو أنّ أوباما كان يأمل ايضاً أن يؤدي انهاء عزلة إيران الدبلوماسية والاقتصادية عن الغرب الى إعطاء طهران أسباباً لتخفيف شعورها بالعداء تجاه جيرانها والولايات المتحدة. فجمهورية إيران الاسلامية، التي أتت بها ثورة العام 1979، قد أصبحت من وجهة نظر ادارة أوباما حقيقة قائمة من حقائق الحياة. وعبر مقابلة أجراها "جيفري غولدبرغ" من مجلة أتلانتك مع أوباما خلال العام 2016 قال الرئيس إنّ على الإيرانيين ومنافسيهم العرب، الذين تدعمهم أميركا، أن يجدوا سبيلاً للعيش المشترك معاً في المنطقة وإقرار شكل من اشكال السلام البارد فيما بينهم، على حد تعبير أوباما.
بموجب صفقة العام 2015 نجح أوباما بجعل إيران تتخلى عن اجزاء اساسية من برنامجها النووي وتسمح بعمليات التفتيش الدقيق، بيد أن معظم ما تضمنته تلك الصفقة كان مؤقتاً. فالتحديدات التي تقيد تطوير أجهزة الطرد المركزية النووية ينتهي أجلها اواسط العام 2025، والتحديدات على تخصيب اليورانيوم ينتهي مفعولها بحلول العام 2030.
لقاء ذلك حصلت طهران على وعود بتخفيف العقوبات الاقتصادية الخانقة عنها، ولكن لم تفرض اية حدود على قدراتها العسكرية التقليدية أو على سلوكها العام الذي يشمل المنطقة. أما على صعيد الدبلوماسية الدولية فقد اكتسبت إيران، ولأول مرة، حق تخصيب "قدر قليل من اليورانيوم" الى مستوى منخفض على الأقل، ولكنّه كافٍ لبعض الاستخدامات المدنية.
لماذا رفض الرئيس
ترامب هذا التوجّه؟
يُحاجج ترامب ومعه ثلة من المنتقدين، ويقدمون أدلة مع حججهم، بأنّ إيران كانت تستغل الفرصة من أجل تعزيز قدراتها العسكرية التقليدية وبناء قوة من الجماعات المسلّحة الموالية لها على امتداد انحاء المنطقة. وبسبب اقتناع هؤلاء المنتقدين بأنّ رجال الدين الذين يحكمون إيران سوف يبقون يكنّون عداء لا يهدأ للولايات المتحدة وحلفائها فقد تمسكوا بحجة تقول إنّ إيران سوف تبرز من كل هذا وهي اعظم قدرة ووسائل، وعندئذ تنطلق مسابقة الريح نحو السلاح النووي بمجرد انتهاء أمد القيود التي تفرضها الصفقة على تخصيب وقودها النووي.
لذلك شن ترامب بعد انسحابه، خلال صيف السنة الماضية، مما وصفها "بالصفقة الشنيعة"، حملة "ضغوط قصوى" لإرغام إيران على تقبّل قيود أكثر شمولاً وديمومة. تألّفت الحملة من إعادة فرض العقوبات الاقتصادية، وفي شهر أيار الماضي فرضت ايضاً اجراءات لوقف مبيعات إيران النفطية على نحو شبه تام. اعتبر المسؤولون الايرانيون تلك الاجراءات شكلاً من اشكال الحرب واعلنوا ذلك رسميا واعلاميا.
من المثير للاستغراب، كما يشير بعض المنتقدين، أنّ دونالد ترامب يسلك الان مع كوريا الشمالية ذات السلوك الذي اتبعه أوباما مع إيران، إذ يسعى الى بناء علاقة شخصية مع الزعيم "كيم يونغ أون" محاولاً إغراءه بتصورات عن ازدهار الاستثمارات الدولية والتطور الاقتصادي إذا ما أوقفت كوريا الشمالية سعيها للاسلحة النووية.
بل إنّ ترامب يلمح احياناً، فيما يصفه المنتقدون بالإمعان في تشويش المشهد، الى أنّه ربما سيكون مستعداً مع حالة إيران حتى الى تجزئة القضية النووية. فمن خلال مقابلة تلفزيونية اجريت معه حديثاً قال مجملاً رسالته الى طهران: "لن تتمكنوا من حيازة سلاح نووي، عدا هذا نستطيع الجلوس والتفاوض".
خيارات إيران
بإمكان إيران أنْ ترضخ بكلّ بساطة. ففي العام 2015 ساعدت العقوبات الاقتصادية خلال فترة تولي ادارة اوباما على دفع إيران الى قبول التفاوض، مع ملاحظة أنّ العقوبات الحالية توصف بأنّها أشد وطأة وإيلاماً من تلك. بيد أنّ التاريخ يظهر لنا أن العقوبات الاقتصادية وحدها قد لا تكون كافية لارغام بلد ما على التخلي عن طموحاته النووية، فخلال حقبة السبعينيات شاع أن رئيس وزراء باكستان الراحل، ذو الفقار علي بوتو، قال: "سنأكل العشب وأوراق الشجر أو حتى نتضور جوعاً، ولكننا سوف نحصل على قنبلتنا". أعلن يومها أن هذا هو رد بلده إذا ما تمكّنت عدوته الهند من تطوير قنبلة، واليوم كل من الهند وباكستان قوة نووية.
أما إيران فقد قالت، في سياق رفضها الاذعان لضغط ترامب، إنّها ستختار طريقاً آخر، وهو تجاوز الحدود المفروضة على نشاطاتها النووية بموجب اتفاقية 2015 على نحو تدريجي. ويُحاجج الإيرانيون بأنّهم لا يزالون ملتزمين بالصفقة لأنّ بعض فقراتها، من زاوية نظرهم، تجيز لهم التخلي عن التزامهم إذا ما تخلّفت الولايات المتحدة والاطراف الأخرى عن تنفيذ وعدهم بتخفيف العقوبات.
الطرف المتأثّر بهذه التحركات والمستجيب لها هو القوى الاوروبية التي وقعت على الصفقة ولا تزال مؤيّدة لها. فمن خلال اعادة تشغيل برنامجهم النووي تدريجياً بزيادات متدرجة يأمل القادة الايرانيون الضغط على الأوروبيين وجعلهم يساعدونهم على تجنب العقوبات الاميركية، أو التمكّن من دق اسفين بين القادة الاوروبيين والرئيس ترامب. وقد صرّح الايرانيون مؤخراً بأنّهم يخططون لأجل مزيد من تخطي حدود الصفقة النووية بقفزات تتوالى كل 60 يوماً، ما لم تحترم الحكومات الغربية الجانب المتعلّق بالتزاماتها من الصفقة.
بمقدور إيران أيضاً أن تنتقم من الولايات المتحدة باستخدام القوة العسكرية التقليدية. فقبل شهرين برهنت طهران على قدرتها عندما اسقطت طائرة استطلاع أميركية مسيرة اثناء طيرانها على ارتفاع شاهق. كذلك ألقت الولايات المتحدة اللوم على إيران واتهمتها باستخدام الالغام البحرية لإلحاق الضرر بست ناقلات نفط من خلال هجومين وقعا في المياه القريبة من الخليج بعد حادثة اسقاط طائرة الاستطلاع بأيام قليلة.
إلا أنّ الهجمات المباشرة على الولايات المتحدة تنطوي على خطر تلقي الرد، فقد أوقف ترامب عند اللحظات الاخيرة هجوماً صاروخياً قصد به الرد على اسقاط الطائرة المسيرة المذكورة. يقول المحللون أن الاحتمال الأرجح هو أن تعمد إيران الى العمل غير المباشر، وذلك من خلال تجهيز وتشجيع جماعات مسلحة من بلدان أخرى في المنطقة لها علاقة بها كي تهاجم القوات الاميركية أو حلفاء أميركا.
ومن هنا أصبحت السعودية ترفع عقيرتها بالشكوى جراء تصاعد الهجمات على أراضيها من قبل الجماعات المسلحة في اليمن. وهذه الافعال قد تؤذي الاميركيين بشكل غير مباشر من خلال رفع اسعار النفط.
هل ستنتهي المواجهة؟
ربما كانت إيران تأمل أن ينتخب الاميركيون رئيساً جديداً عبر الانتخابات المقبلة في العام 2020، وهذا الرئيس قد يعيد احياء الصفقة القديمة، ولكنها قد لا تتمكن من الصمود الى ذلك الحين، وكل خطوة تتخذها إيران لكي تتخطى حدود الصفقة سترتفع معها مجازفة عودة الدول الاوروبية ايضاً الى فرض عقوباتها، وهذا معناه الالغاء الفعلي للاتفاقية.
كذلك يمكن أن ترفع إيران خطر الرد العسكري الاميركي، أما من خلال التعجيل بتطوير قدرتها النووية أو بارتكاب فعل انتقامي عنيف، سواء بصورة مباشرة أو عن طريق حلفاء لها. وكانت إدارة ترامب قد أعلنت بصراحة أنّها سوف تحمّل إيران المسؤولية، ليس فقط عند شن الأخيرة هجمات مباشرة على أهداف أميركية وإنما في حال تنفيذ أي جماعة مسلحة متحالفة مع إيران هجمات
أيضاً.
كان أوباما يُراهن على أن صفقة 2015 سوف تساعد على دق ركيزة من الثقة، أو من المصالح المالية، لدى الجانب الإيراني بما يجعل التوسّع في القيود المفروضة لاحقاً أسهل منالاً. أما ترامب فقد راهن على العكس، لأنّه يرى أنّ إيران المرفّهة لن تزداد، من دون العقوبات، إلّا عداء للولايات المتحدة وخطورة على مناوئيها في المنطقة.
يقول "مارك دوبوفتز"، وهو منتقد بارز لصفقة 2015 ويشغل منصب كبير المدراء التنفيذيين لمؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات: "ما نواجهه هو مجابهة تلوح مع إيران آخذة بالتصاعد والتفاقم على عدة اتجاهات ومحاور، ولكنّها مجابهة لا بدَّ لنا من مواجهتها في نهاية المطاف. لهذا أرى أنّ من الأفضل لنا مواجهة إيران المنهكة اليوم بدلا من أن نواجهها غداً وقد اشتدَّ ساعدها".