حول مفهوم أنسنة الحياة

آراء 2019/09/03
...

محمد عبد الجبار الشبوط
 
استخدم كلمة “الانسنة”، أو أنسنة الحياة، واحيانا “النزعة الانسانية”، بما يقابل كلمة  humanization الانگليزية وليس كلمة Humanism. 
ترد كلمة Humanism في القواميس الفلسفية والسياسية كمصطلح فلسفي اختلف بل تنوع الكتاب في بيان معناه ودلالته، لكنهم يرجعونه الى معنى واحد اساسي هو مركزية الانسان، وغالبا ما يعطونه معنى مقابلا للدين او لله. ولا شك عندي انه بدأ في ايطاليا وان اول من زرع بذرته هو الشاعر بترارك المعروف. وهناك من يرى ان هذه النزعة هي من نتائج الاحتكاك الاوروبي الاسلامي، سواء في الحروب الصليبية ام في الاندلس. ولست معنيا بما يقوله كل فيلسوف او مفكر او كاتب عما يعنيه مصطلح Humanism بالنسبة له الا بمقدار ما يلتقي او يختلف بما اعنيه من كلمة انسنة الحياة او النزعة الانسانية كما في كلمة humanization. 
 دعوتي الى انسنة الحياة او النزعة الانسانية ليست مرتبطة بهذه التطورات الا بمعناها العام ودلالاتها الكلية التي سوف ابينها في السطور التالية.
انسنة الحياة عندي هي كلمة عربية اصيلة على وزن (فعللة) وليست مصطلحا فلسفيا، وهي تصلح ان تكون ترجمة للكلمة الانگليزية humanization، المشتقة من الفعل humanize، والذي يعني جعل (الموضوع)، اي موضوع، انسانيا، اي اضفاء الصفات الانسانية على (الموضوع). والموضوع هنا هو الحياة نفسها التي قوامها الانسان، بوصفه العنصر الاول في #المركب_الحضاري. انسنة الحياة هنا ليست مصطلحا فلسفيا بقدر ما هي عملية مستمرة process  لاضفاء الصفات بل الشروط الانسانية على الحياة، بمعنى جعل الحياة لائقة للانسان، بما فيها من كرامة وحرية وامل الخ، ومحققةً لشروط نمائه وتكامله في خط انسانيته. 
انسنة الانسان، بوصفه كائنا عاقلا، هي نقطة البدء في انسنة الحياة، التي تمتد الى الثقافة والفن والدين والسياسة والاقتصاد والاجتماع والتربية الخ. والعقل هو الحجر الاساس في انسنة الانسان. وبالعقل امتلك الانسان الصفات او الخصائص التي تميزه عن الحيوان او ترفع درجته على درجة الحيوان، بما في ذلك اللغة والتواصل والتفكير والمشاعر الرفيعة الخ، وهي ما فطر (اي خلق) اللهُ الانسانَ عليها، او اوجدها في الانسان وجعل فيه القابلية على صنع الخير.
ولهذه الصفات وبسببها اعلن الله تكريم الانسان واستخلافه وتحريره واعطاءه حرية الاختيار واعتبره مسؤولا وامر الملائكة بالسجود له وسخر الكون له وجعل التشريع يدور مدار مصلحته.
وحين احيل الامر الى الله فاني اعلن ان انسنة الحياة لا تقف في مواجهة الله، ولا تعلن موته، بل تستمد مركزية الانسان من مركزية الله. 
وحين احيل الامر الى الله، فاني اعلن ضمنا مرجعية كتبه في استلهام معنى ومضمون ودلالات انسنة الحياة، وبخاصة القران الذي جعله الله مصدقا لما بين يديه من كتبه ومهيمنا عليها.
وهذه الاحالة لا ينبغي ان تزعج الذين يؤمنون بالهة اخرى من العلمانيين وغيرهم، لان لكل انسان طريقه في الاقتناع بمفهوم انسنة الحياة، وتحسين نوعيتها ودرجة رقيها، وهذا هو هدف مشترك لكل البشر. ما دام الهدف واحدا، فان الحياة لا تمنع من تعدد طرق الوصول اليه.
لكن هذه الاحالة مشروطة بالفهم الحضاري والانساني للدين، ولهذا فهي ترفض الممارسات والتصورات الشعبية المنسوبة للدين، او التفسيرات المتشددة والمغلقة لنصوصه، والتوحش في تطبيقها (على طريقة داعش، وكل المتطرفين امثالها من اي مذهب كانوا)؛ مشروطة بانسنة الدين نفسه، اي ابراز النزعة الانسانية والحضارية في الدين، تلك النزعة التي يمكن ان نستلهم منها، ومن غيرها مما قد لا نجده فيها، القيم الحضارية العليا الحافة بالمركب الحضاري. ونحن في نهاية المطاف نسعى الى تشغيل المركب الحضاري بالطريقة المنتجة للحضارة في خطها التصاعدي المؤدي دائما الى تحسين نوعية ومستوى الحياة بالنسبة للانسان.وليس في هذا ما يحول بيننا وبين الانفتاح العقلي والانساني والحضاري على حركة الفكر البشري والاستفادة منها عبر حوار الحضارات في بناء القيم الحضارية العليا المشتركة.
وبهذا كله، تكون اطروحة الدولة الحضارية الحديثة هي الاطار العام الذي تتحقق فيه انسنة الحياة باعلى درجة حققتها البشرية حتى الان. وفي هذا، اثبت التاريخ الانساني ان السير نحو هذه الاطروحة سير تكاملي، تصاعدي، مستمر، مضطرد، من الممكن للباحث ان يتصور مستقبله البعيد. وهنا ياتي الامل كجزء من هذا التصور، بل كجزء من انسنة الحياة.