ما يميزُ شاعر عن آخر هي طريقة استعماله للمعاني السائدة في سياق فكري غير مألوف وأن عملية توليد المعاني لا تتم الّا بتحريره كما اسمته الناقدة سمية درويش ( تحرير المرآة نفسها) . وهذا يتيح للشاعر أن يؤسس نظرة جديدة للإنسان والآخر ، كما يميز لغته الشعرية عن غيره .
وفي مدونات إعرابي للشاعر عارف الساعدي التي حملت بعداً تاريخياً مهماً ، لكن هذا البعد قام على أساس نظريات فكرية استطاع الشاعر في المدونة أن يوظف تلك النظريات بنسق مخفي ، كما أنه جعل الإنسان والمادة جسداً واحداً وهذا يضعنا في قلب الرؤية الصوفية التي ترى وحدة الوجود . الإنسان خلاصة الكون الأكبر . هو الكون الأصغر . وبهذا المعنى يصبح الشعر مرئياً ناطقاً بلغة الشاعر متحركاً فيه ، في افتتاح المدونة يؤسس الشاعر قراءة جديدة لشعرنا العربي في حركية قائمة على الموروث التاريخي في فكر يضمره النص ،
فيقول :
كذبٌ وادعاءٌ هو الموت
فأنا لم أمت بعد
وأنا منذ أنْ ولدتني الهجيرةُ
مازالتُ حيا
ولدتُ بخاصرةٍ في كهوف اليمن
قبل عشرين عاماً من البعثةِ النبوية
أذكر أني ولدتُ
وما زلتُ أذكر
النظرة الأولى للنص تظهر نزعة التمرد على شيء محتم لا مفر منه يحاول الشاعر أن ينفيه عن ذاته هو الموت ، لكن تتضح أن هناك عملية نسقية مستمدة من نظرية فكرية وهي مستمدة من مذهب السبيوزية لمؤسسها المفكر والفيلسوف باروخ سبينوزا الذي يرى ( أنَّ آخر ما يفكر فيه الرجل الحر هو الموت ؛ لأنّ حكمته ليست تأملاً للموت بل تأملاً للحياة ) . النص محملاً بتأملات ورؤيا عميقة للحياة وهذا ما يسميه الوجوديون الانتصار على الموت ، فالنص الشعري كان يضمر آفاقاً فكرية لا يرصدها الّا المتلقي النخبوي وهذا يحيلنا إلى رصد ايديولوجية الشاعر الصوفية التي تنظر للموت الى أنه مشاركة الحياة الإلهية التي تجري بالفعل من خلال الوجود على الأرض ويعدّ الموت الصوفي والانتصار على الموت العضوي ، فالشاعر في قوله ( أنا منذ ولدتني الهجيرة ما زلت حياً ) تتطابق مع باروخ . وبعد عملية الولادة وأزلية الحياة ينتقل الشاعر إلى تأمل فكري آخر ومرحلة أخرى هي البحث عن الإله فيقول :
كيف نصلي
ونشد النذور على بابهم
ونغسلُ أحلامنا بالمطر
وأذكر أني درجتُ على تلكم الأرض
وعتقتُ أدعيتي في الكهوف البعيدة
ثم احتميت بما ظل من خيم الآلهة
غفوت على بابهم مطمئناً
شكمتُ الرؤى العابثات
وزجرتُ خطىً تائهة
سلام على عدد الآلهة
ثلاثون عشرون
لا اتذكر
لكنهم كثرٌ طيبون
ثلاثون رباً ينامون في غرفة واحدة
ثلاثون رباً على الامم البائدة
ثلاثون رباً ولكننا أمة واحدة
الشاعر يصور الحياة قبل البعثة النبوية التي كانت زاخرة بتعدد الآلهة والتقرب إليها بالنذور والقربان هذا ظاهر النص ، لكن ما يخفيه النص من نسق فكري يعود إلى النظريات الغربية في مرحلة عصر التنوير في القرن الثامن عشر وما بعده الى العصر الحديث حين أعلنوا موت الإله وحل محله ( العقل ، الطبيعة ، الروح ، الثقافة ، الفن ، الإنسانية ، الوجود المجتمع الآخر ... كلّ هذه تعمل بين حين وآخر لتحل محل الإله). فتعدد الإله في النص السابق لا يعني الوثنية اطلاقاً ، بل يدل على تلك البدائل التي حلت محل الإله من قبل المفكرين الذين زعموا أنه مات ، فالشاعر في قوله ( ثلاثون رباً ينامون في غرفة واحدة ... ) يشير إلى تلك البدائل التي نابت عن الإله وهذا يظهر وعيه الفكري وصراعه الذاتي . ثم يعود في مدونته إلى عودة الإله بعد موته.
فيقول: اتذكر أني تركتُ اليمن
وأدركت وجه النبي بمكة
صافحته مرتين
عطراً كان ذاك النبي
ويأخذ القلب قبل اليدين
ولكنما يده الفارهة
كسرت أذرع الآلهة
ثم قال لنا إنما ربكم واحد واسمه الله النص يوضح مرحلة التوحيد التي عاشها العرب عند قدوم النبي الذي جمعهم على إله واحد هو الله ، لكن النسق الفكري مستمد من النظرية الغربية التي أشار إليها تيري ايغلتن هي عودة الله بعد أن ذبحته العلمانية والرأسمالية المعاصرة ( رفع الله الحانق رأسه مرة أخرى ، متلهفاً لإبداء احتجاجه على أن ورقة نعيه قد صدرت قبل الأوان . يبدو أن العلي القدير لم يكن مثبتاً جيداً في تابوته المقدس ). فالشاعر حين انتصر للإله لجأ الى استعمال صوت النبي ؛ ليكون اقرب إلى المتلقي ( انما ربكم واحد واسمه الله ) إعلان عودة الله بعد موته وهذا يتطابق مع تلك النظرية . ثم يطرح الشاعر المفكر في المدونة قضية فكرية أخرى فيقول:
لم نكن نعرف الله الّا قليلاً
ولم نك نعرف إنّ الإله
الذي وحدته القبائل شتتها بعد حينٍ
فلم يبصروه ولم يعبدوه
ولم يعرفوا لرضاه سبيلا
النص يدخل في مرحلة جديدة من بعد التوحيد والاسلام ، وهذه المرحلة في نظري تعلن موت الاسلام كدين ليبدأ مرحلة أخرى هي الاسلام السياسي بعد وفاة النبي التي نتج عنها سفك الدماء والفتن والحروب المستمرة الى يومنا هذا ، واكثر القادة الاسلاميين بعد النبي قد ماتوا قتلاً وهذا يؤكد أن اسلام هذه المرحلة لم يكن ديناً ،كان ايديولوجية سياسية وهذا ما يوضحه هولباخ وهيوم في ( الدين بوصفه ايديولوجية سياسية وأن الجلاد وليس القس هو الذي يدعم النظام الاجتماعي ) . المدونة كانت حاملة لأنساق فكرية مستمدة من نظريات في الفكر الغربي وهذا يحيلنا إلى أن وظيفة الشعر هنا كانت فكرية اكثر ممّا هي جمالية واجتماعية ، فالنسق المضمر كان حاضراً والشاعر عارف الساعدي كان مفكراً ناجحاً في طرح تلك القضايا حين اضمرها في الأنساق كذلك.
القضايا حين اضمرها في الأنساق كذلك في مدونته خاطب النخب والمفكرين أكثر من المتلقي الاعتيادي .
المصادر
1 . موسيقى الحوت الازرق ادونيس : ص 83 .
2 . الموت في الفكر الغربي جاك شارون : 20 ـ 75 .
3 . الثقافة وموت الإله تيري إيغلتن : 61 ، 226، 39 .