الشعر وسيلة تعبيرية ذات وظيفة جمالية ودلالة اجتماعية..
وباستحضار المجموعة الشعرية الاولى للشاعر ناظم حكمت (تحت أشجار الزيزفون) التي أسهم في ترجمتها كل من الدكتور مصطفى صابر والقاصة سافرة جميل حافظ..واسهمت في نشرها وانتشارها مطبعة الرفاه/2014..كونها تعبر عن وجدان الشاعر في تلك السن المبكرة..وقد تمثلت في(سلام الشهداء/نداء/الى البحر/نحن والبحر/البكاء فوق السرو/ايمان/الغرام الابدي/طريق الخيال/السيدة النائمة/الحبيبة/الينبوع ذو العين الباردة)..
وناظم حكمت في قصائده هذه يشكل ثمرة الرؤية الانسانية التي ترى ان الانسان أثمن رأس مال ومركز الوجود..كونه حياة الشعر ووجده بجوهره..
ايها المار لا تثقل الوطء حين تمر
فهذه الارض قد روتها الدماء
والاحجار قد سحرتها الدماء
ايها القاتل.. انتبه لئلا تصفعك
تلك الاحجار المسحورة /ص8
فالنص يتجاوز القوالب الجاهزة بتنويع ادواته اذ المزج بين النثر والشعر مع توظيف التراث المحكي واستخدام اسلوب التناص الذي هو تشكيل نص جديد من نصوص سابقة..باعتبارالنص فاعلية المخزون الذاكراتي لنصوص مختلفة..اذ يلتقي الشاعرفي بعض الافكار والصور مع المعري في نصه..(ما اظن اديم الارض الا من هذه الاجساد)..اضافة الى انه يقتنص المجازات والاستعارات والرموز التي تتآلف ورؤية الشاعر الانسانية..كونه يرى(ان الشاعر الحقيقي لا يخضع لاي قاعدة فنية مطلقة او ثابتة) :
لما كانت يدي تبحث
عن يدها في الفراغ
اربعين يوما دون انقطاع
شاهدت اول نجمة
ملأت قلبي الفارغ
اربعين يوما ابحث عن حبيبتي
حين شاهدت وجهها
فقدت شعوري بالنجوم /ص16
فالنص تغلب عليه الناحية العاطفية في نقل التجربة المشهدية الهادئة والنبرة الوجدانية بوساطة الصورة التي تتشكل من جزئيات مؤتلفة في تعابيرها المكتنزة بدلالات نفسية وشعورية مع خيال شعري يلف وجودها..فضلا عن ان شعريته لا تخلو من مبدأ الصنعة التي تسهم في مطابقة الشكل والمضمون مع ابتعاد عن الزخرف والافتعال مع ايجاز وتكثيف واقتصاد لفظي وبساطة ساحرة ومواقف واضحة..كون الشاعر جرب كل الاشكال الشعرية ابتداء من تشبعه باناشيد الصوفية التي شكلت وعيه الشعري.. ومرورا بشبابه المميز بنشاطه السياسي الذي انبثق من مسؤولية مجلة المطرقة والمنجل ومن ثم السفر الى روسيا ودراسة علمي الاجتماع والاقتصاد..فعمله معلما تنويريا ومترجما ومراسلا وكاتب نصوص سيمية ..اضافة الى ذلك ريادته للشعر الحر(الشعر المنثور) والحداثة بمفهومها الشامل..باتفاق النقاد الذين اكدوا تفوقه في توسيع آفاق الشعر التركي وفي تجديده وتجاوزه القوالب الكلاسيكية الجاهزة(بتكسير القواعد العروضية وتخطي الموضوعات الثابتة والجماليات اللغوية والشكلية التي رسخها الشعراء الذين سبقوه عبر اذكائه نار التحديث في الهشيم الشعري).. على حد تعبير الناقد غوزين دينو..كل هذا دعا الناقد نعمت ارزيك ليضعه في مستهل تيار الشعر التركي في الانطلوجيا التي صدرت بالفرنسية عن دار غاليمار.كون الشاعر يريد من نصه الشعري القصير او الملحمي ـ الدرامي ان يكون شاهدا لعصره والمراحل المتعاقبة..لذا فهو لم يكتف بثورته اللغوية والشكلية والمضمونية المستوحاة من الوجدان والذاكرة بل تجاوز ذلك الى المفهوم الشعري الجامع بين الشعر والحياة..حتى انه عندما يكتب عن هيروشيما او بورسعيد فهو يكتب انطلاقا من موقف ورؤية انسانية وثقافية كاشفة عن انتمائه الكوني:
هل تذكرين ذلك اليوم الثلجي؟
ذلك الشتائي الذي تقابلنا فيه
كنت اراقبك فيه عن بعد
ترى ما الذي تبحث عنه هذه المرأة؟
في الثلج
سوف لن ينسيني حتى الربيع الاخضر
تلك النظرات التي ملأت قلبي بحبك /ص18
فالشاعر يعبر عما يجيش في نفسه من عاطفة تجاه الوجود الحقيقي ـ المرأة ـ التي تعني(الوطن /الحبيبة/الزوجة..)كون الشعر عند الشاعر قضية وغاية فضلا عن انه وسيلة.. لذا فهو يجمع بين الكلمة والموقف بعيدا عن الازدواجية التي هي في جوهرها عجز عن المواجهة لانه لم يعش حياته الا شاعرا في الوطن والسجن والمنفى..حتى انه حين وقف امام المحكمة قال مدافعا عن نفسه:(الدولة تخاف من الشعر..) لانه مخيلة الشاعر المقلقة للانظمة دوما.. كونه ينشأ على ضفاف الحلم الباحث عن مدينته الفاضلة.. على اثر ذلك حاز على جائزة السلام العالمي مناصفة والشاعر الارجنيتني بابلو نيرودا..بعد ان ترجمت اعماله لاكثر من خمسين لغة وكان لها تاثيرها في الانسانية لما تحمله من احساس مرهف ونفس ثوري شفيف ودعوة للحرية..فضلا عن انها تعيش الامل الانساني في مواجهة اليأس ،لذا كان يردد (تفاؤلي هذا الكنز الفريد الذي لا ينضب)..وفي شهادة لزوجته ان ناظم حكمت كان يصحو كل صباح ليذهب راجلا الى مبنى البريد تسقطا للرسائل المقبلة من الوطن البعيد تحمل اخباره..وكانت تلك الاخبار زادا وملهما وباعثا على الدفء في برد الروح الذي يجتاح المنفى..وفي صباح احد ايام الصيف من عام 1963 خرج الى مثواه اليومي نحو البريد..لكنه لم يعد..لقد سقط ميتا في الشارع وهو في طريقه متلهفا لرسائل
الوطن..)..
ايتها الريح اسرعي وافهميها
لوعتي هذه
ولا تعودي
لتزيدي الآم قلبي