الحيرة الحضارية

آراء 2019/09/19
...

عدنان أبوزيد
يُرصد خللٌ بين التصورات المثالية، وتطبيقاتها على أرض الواقع، ذلك انّ المقاييس التي بموجبها تُسن القوانين، وتُنظّم الحياة، التي تضع حدا للصراعات الايديولوجية والفكرية، باتت تنظيرية أكثر منها تطبيقية، وهو أمر انتبهت له أمم نجحت في تخطي اخطار الحروب الطائفية والقومية، والكراهيات المجتمعية.
المثال في هذا الصدد، أوروبا. ففي المشاهد اليومية التي يعيشها العربي والمسلم، يرصد حقيقة انّ التباين الشاسع بين الثقافات وتعدد
 الانتماءات، لم يعد مقياسا يقف حجر عثرة، في طريق ترسيخ آلية مشتركة للتفاهم، ومن ذلك ان الفرد الذي صقلته حضارة العصر، يشعر بالقوة في سلوك التسامح والصفح ومحاولة فهم الاخر، على الرغم من انه غير مؤدلج عقائديا، بينما أفراد شعوب أخرى، حضّها من التعليم أقل، وتتحمس لتعصبها العقائدي والفكري، تجدها تعيش في أوربا بنفس روح التشدد والغلو والانتقام والثأر، بل وفي فرض القيم والأخلاق الخاصة بفئة معينة حتى على المجتمعات الاوروبية التي يعيش فيها ضمن اقلية. ثمة حاجة الى صياغة النظريات الجديدة في بلادنا، لصقل السلوك الجمعي، باتجاه ثقافة التساهل 
والمحبة، والتفاعل مع المختلف، حيث التجربة الناجحة في أوروبا، تجعلنا ننسخ أمثلة، تسهم في بث الحماس بين أفراد مجتمعاتنا، ففي القارة البيضاء ومنذ القرن التاسع عشر، انحسرت بشكل واضح المفاهيم التي كانت تسيطر على الذهنية الغربية، في تحديد العلاقة بالآخر على أساس القومية والدين، وأصبح البديل هو الأداء والانجاز.
انحسرت عن هذه الدول، على رغم شعورها، بتفوقها في مجالات العلم والثقافة والأدب على الدول الأخرى، العنصرية الأوروبية التي تعكس تفوق ثقافة ودين الرجل الأبيض، وانّ الذي يجب ان يقود العالم، الثقافة الاوروبية البيضاء المستمدة جذورها من حضارة الاغريق، وانّ الثقافة المسيحية يجب انْ تسود بحكم أجندتها الحياتية والفكرية وقدرتها على 
الاقناع. 
عكس التسامح الأوروبي، فانّ هناك حتى في داخل أوروبا نفسها، من يصر على التمايز السلبي، متوهّما بانّ ذلك يمكنّه من التأثير والشعور بالبقاء، على الرغم من كونه أقلية مهاجرة، وهو سلوك ناجم عن التربية المغذية للتحجر والحذر من الآخر، والشعور بالنقص، او بالتفوق أمامه، ففي كلا الحالين، 
فان ذلك مدعاة الى عدم الاندماج، في المجتمعات الجديدة والعيش على الهامش فيها.
انّ أحد أسباب النجاح الأوروبي، هو تجاوز الغلواء والذاتية، في التعامل بين افراد المجتمع، من مواطنين اصليين ومهاجرين، وهو عامل أهّل هذه الشعوب للابتكار والخلق، وتحولها الى المعلم الأول للعالم، على رغم ندرة خطابها المؤدلج لكسب الاتباع، وانحسار أسلوب الوصاية على الدول الأقل شأنا، وكان ذلك سببا في تحولها الى بلدان تلونها الهجرات المتعددة والعادات والتقاليد المختلفة، القادمة من الشرق والغرب ومن الشمال
 والجنوب.
مع مرور الأيام، فان لا مفرّ من توقع اندماج واسع وجذري لثقافة أوروبا التي كانت في يوم من الأيام، تجد نفسها متميزة وهي الابنة  المدللة للملك الفينيقي التي أغدق عليها الاله الاولومبي سيوس قوته وجماله وذكاءه، مع ثقافات المسلمين والهندوس والبوذيين والأديان الأخرى، في تجانس تاريخي بين تراث الشرق ودياناته وثقافاته ومنتجات الحضارات الهيلينية والمسيحية والعلمانية 
والإسلامية.
تأريخيا، فانّ ذلك حدث يوما على أيدي العرب المسلمين، في الاندلس، حين ذاب  العرب في الارض التي وفدوا اليها، وتعلموا ثقافتها، واكتسبوا رقة اهل الاندلس الأصليين، وتبادلوا معهم الثقافات، واصبحوا اكثر انفتاحا حتى من الأندلسيين أنفسهم، وتجاوزا في علومهم الميثولوجيا الدينية، الى العلم والفن والادب، واختلطت أفكار ابن رشد، فيلسوف قرطبة مع اطروحات توماس الاكويني، المعلم الأول
 للأوروبيين.
يقود التسامح أوروبا، الى إزالة السدود أمام الهجرات من الخارج، وبات توطين الاسلام في اوروبا الغربية، امرا واقعا يتجانس مع دين اوروبا التاريخي، المسيحي، ما يملي عليك التمعن كثيرا في قدرة الانفتاح لا الانغلاق، في بناء الحياة والكف عن الشعور بالنقص أمام الاخر، والتشكيك الدائم في أهدافه، واعتباره، عبر أفكار مسبقة متآمرا، يسعى الى تدمير ثقافتنا ومعتقداتنا.