- 1 -
من أخطر سلبيات النسيان أنّه آفةُ العلم، وعليه فإنَّ الجهود المضنية التي تبذل في سبيل تحصيله قد تذهب ضياعا... وهذه خسارة كبرى
- 2 -
ومن أبشع صور النسيان أنْ تشبع وتنسى أخاك الجائع ..
قال الشاعر :
كم صيامٍ عانيتُ جوعيَ فيه
ونسيتُ الجياع مِنْ إخواني
ومن هنا :
يعرف حجم الخذلان الذي ارتكبه سياسيو الصدفة ممن صعدوا على اكتاف المواطنين حتى اذا ما فازوا، نسوهم وانصرفوا لإحراز المكتسبات على
حسابهم ..!!
- 3 -
اذا كانت ذاكرة الانسان معرّضة لان يعروها النسيان، فانّ ذاكرة التاريخ لا تنسى ،وكيف تنسى المنعطفات المهمة والأحداث الخالدة؟
قال شاعر معاصر في ذكرى مولد سيدة نساء العالمين الزهراء البتول فاطمة (عليها السلام):
في يومٍ لا يمُحى من
ذاكرةِ التاريخ ولا يُنسى
غَمَرَتْنا فاطمةٌ أَمَلأ
وأطلّتْ طالعةً شمسا
تتوهّج أحرفُ سيرتها
نوراً فتظلّ لنا درسا
عظُمت في الدين مفاخرها
فَعَلَتْ قدْراً وزكتْ نفسا
قال الشاعر :
أَفرَطَ نسياني الى غايةً
لم يَدَعِ النسيانُ لي حسّا
وصرتُ إمّا عرضتْ حاجةَ
مهمةٌ أودَعْتُها الطِرْسا
فصرتُ أنسى الطرس في راحتي
وصرتُ أنسى أنّني أنسى
كان هذا الشاعر المبتلى بالنسيان يسارع الى كتابة ما يهمه ويكتب في الورقة ما يخشى عليه النسيان، ثم بلغ النسيان به حَدّاً أنساه الورق الموجود في راحة يده.
وهذه من أعلى صِيغِ النسيان .
ومعظم الناس – ممن وقاه الله شرّ الابتلاء بداء النسيان الشديد – لا ينسى نفسه ..
ولا ينسى مصالحه ..
ولا ينسى مالهُ في ذمم الآخرين من الديون ..
- 4 -
وهل رأيتَ “ أباً “ ينسى
“ ابنه “؟
وكيف ينساه وهو معقد آماله، ومالئ قلبه وشاعل تفكيره ؟
وهل ينسى الحبيب حبيبتَه ؟
كتب احد الشعراء الى أديبة كان يحبها :
تمسين ناسيةُ وأُمسي ذاكرا
عَجَبَاً أشاعِرَةٌ تهاجر شاعرا
فهل الملائك كالحسان هواجرٌ
إنّ الملائك لا تكون هواجرا
انْ كنتُ لا أسعى لدارك زائراً
فَلكمْ سعى فكري لداركِ زائرا
وهل رأيتَ يوماً ربّ الأُسرة ينسى أسرته وعائلته؟
إنّه يكدح من أجلهم، ويكافح من أجل اسعادهم، وهم لا يغيبون عن باله وذاكرته في كل أحواله، وهنا :
نذكر لكم حادثة وقعت لبعض التجّار، إذ رأى في السوق رجلاً يحمل طبقاً من العنب في اول عرض له في الاسواق، فاشتراه وبعث به الى داره، وكانت عادة الرجل ان يتناول غداءه خارج المنزل إذ يكون منهمكا بشؤون العمل، ويتناول العشاء مع عائلته، وحين جيء له بالعشاء إلتَفَتَ يمينا وشمالاً لعله يجد شيئا من (العنب) الذي أرسله الى المنزل نهاراً فلم يجد له
أثرا..!!
فسأل :
أين حصتي من العنب ؟
فوجم الجميع
ثم قالوا له :
اننا نأسف، فقد نسيناك !!
وهنا تنّبه الرجل الى انه قد يُنسى وهو بين أهله فكيف اذا كان تحت أطباق الثَرى؟
ومنذ تلك اللحظة أدرك ما يجب أن يدركه من وجوب الاستزادة من العمل الصالح ليكون زاده في الآخرة، من دون تعويل على أحد ..
ولقد قال أمير المؤمنين الامام علي بن ابي طالب (ع):
(يا ابن آدم كنْ وصيَّ نَفْسِكَ )
وأخيراً :
لا تنسى أنّك مرصود أينما حللت، وفي كل أقوالك
وأعمالك،
والله مطلع عليك، والمَلَكَان الحافظان يكتبان كل ما تقوم
به...
إنّ نسيان أرقام الهواتف مثلا ليس جُرماً فلا تقلق، وانّ نسيان الحضور في حفل دعيتَ له ليس أمراً لا يمكن تلافيه، فالاعتذار ينهي المشكلة .
وهكذا كل هذه المفردات الحياتية الصغيرة .
إنّ الذي يجب ان لا تنساه هو طاعة الله وامتثال اوامره واجتناب نواهيه
وان هذه المنظومة من الأحكام، انما هي المنهج الإلهي المرسوم لمساراتك كلها ...
- 5 -
والمرعب ان تأمر الناس بالبر وتنسى نفسك، وأنْ تكون دنيوياً حتى العظم وتنسى الآخرة ...
والوقوف بين يدي الله
للحساب
نسأله تعالى ان يكتبنا واياكم من الذاكرين له، العاملين لمرضاته وأنْ يختم لنا جميعا بالغفران والرضوان .
- 6 -
قد يكون النسيان بسبب الشيخوخة
قال الشاعر :
قلبي خزانةُ كلّ علمٍ كان في وقت الشبابِ
وأتى المشيب فكدتُ أنسى فيه فاتحة الكتاب
ولكن الحبيب الحقيقي لا يُنسى اسمع ما قاله جعفر الخليلي – وهو من كبار الادباء ورجال الصحافة – في رثاء
زوجته :
أنساك لا واللهِ لا أنساكِ
أنسى وملءُ جوانحي ذكراكِ
البيت بعدك مُعوِلٌ لا صوتَ في
أرجائهِ إلّا عويلُ الباكي
- 7 -
وأخيرا
قال تعالى في محكم كتابه العزيز :
(نسوا الله فنسيهم)
والسؤال الآن :
كيف ينسب النسيان الى نفسه ؟
والجواب :
النسيان هنا معناه تركهم من الثواب لانهم تركوا طاعته.
