لاشك ان ثورة الحرية والكرامة التي اندلعت في تونس في نهاية عام 2010 وحققت اهدافها بهروب الرئيس زين العابدين بن علي من البلاد في الرابع من كانون الثاني 2011 كانت وما زالت نموذجاً يحتذى لثورات الربيع العربي التي حافظت على وهجها .. وقد حققت انتصاراتها المتتالية في مجال الديمقراطية واخر انتصاراتها انها افشلت في انتخابات رئاسية نزيهة جداً الايديولوجيات والبرامج السائدة التي رفعتها قوى الاحزاب التقليدية وانتصرت لارادة الشعب الذي على ما يبدو قد سحب ثقته من هذه الاحزاب .
يبدو الامر غريباً في بلد نضجت فيه العقلية السياسية والاجتهادية الاصلاحية منذ عهد طويل، وتقدم في استيعابه لقضايا الوطنية والاستقلال والحريات والتنمية المستدامة واقرار حقوق المرأة وتوجهات تعزز فكرة المساواة بين الجنسين، حتى ان حركة الاتجاه الاسلامي (النهضة حالياً) نفسها كانت قد وافقت على قرار الحبيب بورقيبة في منع الزواج باكثر من واحدة وأيدت فكرة المساواة بين الرجل والمرأة في الميراث.
على الرغم مما سبق فقد صوت التونسيون في الانتخابات الرئاسية الاخيرة لصالح من يتحفظ على مثل هذه القرارات فكيف تم ذلك؟ وهل لمثل هذه المستجدات من تأثير في المسيرة الديمقراطية وربما عرقلتها تلك المسيرة التي اعتبرت بعد اجراء الانتخابات الرئاسية الاخيرة نموذجا عربياً وغربياً يحتذى؟ كيف ننظر لهذه العملية الانتخابية وما هي مستجداتها ؟
أولاً: جرت الانتخابات الرئاسية بين 26 مرشحاً بينهم امرأتان وجرت تحت رقابة عربية ودولية واعترفت كل الاطراف المتنافسة على الرئاسة بنزاهتها وعدم حدوث خروقات وهي حالة ايجابية فريدة عربياً .
ثانياً: لقد كان للمرأة في هذه الانتخابات الدور البارز اذ تمكنت المحامية عبير موسى من منافسة الرجال والتعبير عن طموحها وإن اخفقت في ان تصبح أول رئيسة جمهورية في تونس والوطن العربي، على الرغم من ضحالة رصيدها السياسي في عدائها لحركة النهضة وانتماؤها لحزب التجمع الدستوري . كما نجحت السيدة سلوى السماوي زوجة المرشح نبيل القروي المسجون بتهمة تبيض الاموال والتهرب من الضرائب عندما أدارت بنجاح كبيرحملته الانتخابية، فقامت بالترويج له باعتباره ضحية الحكومة المعادية له، وضحية حزب النهضة ، لقد حصل القروي نتيجة جهود زوجته وهو في السجن على المرتبة الثانية وحقق نصراً سيضعه في منافسة غريمه قيس سعيد في الدورة الثانية من الانتخابات التي ستجري في تشرين الاول
المقبل.
ثالثاً : شهدت الانتخابات الاخيرة بعض العزوف من قبل الشباب خاصة ان (35 % من الشباب عاطلون عن العمل) مما أدى الى انخفاض عام في نسبة التصويت من 65 % في الانتخابات الرئاسية السابقة عام 2014 إلى 43 % في الانتخابات الاخيرة.
رابعاً : ينتخب التونسيون الرئيس الثالث لهم بعد الثورة، وقد تميزت الانتخابات هذه بتنظيم ثلاث مناظرات تلفزيونية بين المرشحين، وهذه سابقة لم تشهد مثلها تونس، وعلى ما يبدو تعمل جهات عديدة حالياً على تنظيم مناظرة ما بين المرشحين قيس سعيد ونبيل القروي للدورة الثانية للانتخابات على الرغم من استمرار اعتقال القروي.
خامساً : وعلى العكس من جميع التوقعات واستطلاعات الرأي التي أكدت ان اكثر نسب التصويت ستكون لصالح رموز التيارات السياسية الرئيسة، فقد صوت التونسيون بكثافة ودلالة ضد النخب السياسية وضد الاحزاب التقليدية بيمينها ويسارها ووسطها وتوجهاتها الدينية، حتى اعتبرت نتائج الانتخابات بمثابة هزيمة كبرى لمرشحي التيارات السياسية وصفعة قوية للنخب التقليدية.
سادساً: فاز استاذ القانون الدستوري قيس سعيد بالنسبة الاكبر من تصويت الناخبين وهي 4 و18% في وقت لم يسلك سعيد الطرق المعتادة في تنظيم حملته الانتخابية، اذ رفض التمويل الذى تخصصه الدولة قانونا لحملات المرشحين، وقام بالاعتماد على تبرعات أفراد عائلته واصدقائه وانصاره بتمويل نشاطه الانتخابي. لقد عرفه التونسيون أستاذا ومعلقا تلفزيونيا يتحدث العربية الفصحى ببلاغة. وعرفوه من خلال تنقلاته في الولايات ومن حوله طلابه وطالباته وهم ينشرون اهدافه في الأسواق والمقاهي الشعبية بين العامة والشباب خاصة الرامية الى تحديث الهيئات الدستورية،ومنح صلاحيات أوسع لادارات الحكم المحلي، والأخذ بمزيد من الديمقراطية المباشرة واللامركزية في الحكم. ومن المؤسف ان الرجل لا خبرة له في الميدان التنفيذي وهو محافظ ضد إلغاء عقوبة الإعدام يرفض المساواة.في الميراث ما بين الرجل والمرأة . ربما تكون اقوى دروس هذه الانتخابات هي تلك المتمثلة بابطال مقولة باتت شائعة تؤكد على ان كل ما جرت انتخابات نزيهة في الدول العربية ينتصر التيار الاسلامي فيها.. لقد تعمم هذا الاعتقاد فاصبح محورا لنقاشات المستعربين ودليلاً على فعالية الاسلام السياسي في الشارع العربي.. لقد ابطلت الانتخابات التونسية ذلك بدليل ان حركة النهضة الاسلامية التي كانت الحزب الاول في البلاد عام 2010 هي في تدهور مستمر، ففي انتخابات 2014 الرئاسية تراجعت فاصبحت الحزب الثاني بعد حزب نداء تونس، وفي الانتخابات الاخيرة تراجع مرشحها عبد الفتاح مورو الى الدرجة الثالثة، ولا نعلم الى اين يمضي حزب النهضة . وبالمقابل ما زال حزب نداء تونس متقدما على حزب النهضة وان تفرق الى تيارات وشخصيات متنافسة، ولا نعلم اذا كان بامكان نداء تونس توحيد صفوفه المتشظية والتقدم خلف نبيل القروي والفوز في الدورة الثانية. لا مجال اذن لمقارنته بحزب النهضة الذي خرج مهزوما من المعركة الرئاسية .
وعلى الرغم من التراجع الكبير لحزب النهضة فإن أمل التعبئة الجماهيرية والفوز بالانتخابات التشريعية المقبلة تعتبر امكانية مهمة يدرسها الحزب من اجل عودته لصدارة المشهد السياسي التونسي، وربما ستمكنه لو فاز باغلبية من الإمساك بالسلطة من أروقة البرلمان وليس من قصر قرطاج الرئاسي،
ربما!!