مقترحات لإصلاح الوضع الاقتصادي العراقي

اقتصادية 2019/09/30
...

الشريف علي بن الحسين
 

لم يكن العام 2003 عاماً عادياً للعراق والعراقيين فقد خرج العراق فيه من وطأة الحصار الاقتصادي الذي عُرف بقسوته وشدته، وكذلك خرج من استمرارية الاستبداد والحروب الداخلية والخارجية التي نالت من العراق لعقود طويلة. إذ كان من المتوقع أن يتمتع الشعب العراقي بنهضة اقتصادية توازي نهضة الحياة السياسية، لكنْ من الواضح لأي مراقب أن الحكومات المتعاقبة التي حكمت العراق بعد عام 2003 قد فشلت فعلياً بتحقيق أدنى طموحات الشعب العراقي بالرغم من الزيادة الهائلة لإيرادات الحكومة ورفع العقوبات الدولية وانفتاح البلد على التجارة العالمية. وهذا ما سنناقشه هنا بمحاولةٍ لطرح أفكار جديدة لحل المشاكل المزمنة في الحياة الاقتصادية والإدارية للشعب العراقي

 يُعدُّ الاعتماد الكلي للحكومة العراقية على تصدير النفط لتغطية مصاريفها الداخلية (مصروفات الحكومة بالدينار العراقي) أحد مظاهر الأزمة الاقتصادية لأنّها بذلك تؤدي الى اعتماد المواطن على استمرارية الاستيراد من الخارج. بمعنى أن الوضع المالي للحكومة يعتمد على تشجيع الاستيراد واهمال تطوير الإنتاج المحلي ومن ثمّ هذه الظاهرة غير الصحيّة ستولّد لدينا أزماتٍ عدة:
 أولاً: تزايد البطالة.
ثانياً: تؤدي الى صرف الإيرادات النفطية على الأمور الاستهلاكية وغير المنتجة بدلاً من الاستثمار.
ثالثاً: عدم استقرار الميزانية الحكومية لأنّها ستظل متأرجحة حسب أسعار النفط.
رابعاً: الاستمرار بالاعتماد على الإيرادات النفطية يُنذر بالخطورة خاصة أمام التزايد السكاني والعجز العام في الميزانية الحكومية. 
 
وعليه فإنّ من أوليات إصلاح الوضع الاقتصادي العراقي هو إصلاح الوضع المالي للحكومة العراقية وهذا يمكن تشخيصه بالنقاط الآتية:
 
 أولا: تحتاج الحكومة الى رفع نسبة إيراداتها بالدينار العراقي. وهناك وسائل عدة يمكن من خلالها رفع الإيرادات المطلوبة، منها:
-1 رفع ضريبة الدخل على ذوي الرواتب والدخل العالي.
-2  ضمان تسلّم إيرادات الجمارك بالشكل الصحيح.
-3 بيع عقارات الدولة بشكل شفاف وعلني ونزيه بعيداً عن صفقات الفساد.
-4 فرض ضريبة على أصحاب العقارات الغالية.
-5 فرض رسومات على السيارات الغالية.
-6 تخفيض سعر الدينار أمام الدولار.
ثانياً: اتخاذ الإجراءات اللازمة لتقليص مصاريف الحكومة، ويمكن تلخيصها بالآتي:
-1 مكافحة الفساد ومكافحة هدر المال العام.
-2 تقليص امتيازات المسؤولين. 
-3 العمل على تحويل دفع رواتب المتقاعدين من الميزانية التشغيلية الى رسوم مشاركة وتطوير صندوق لضمان دفع رواتب التقاعد بعيداً عن ضغوطات الميزانية.
-4 تحويل الموظفين غير المنتجين الى قطاعات منتجة غير مرتبطة بالميزانية التشغيلية كالشركات والمصانع الحكومية.
ولعلّ القارئ يرى بأن مثل هذه الإجراءات قد تؤثر بالمدى القصير على المستوى المعيشي لبعض شرائح المجتمع العراقي، لكن بالإمكان اتخاذ بعض الاحتياطات لتخفيف النتائج السلبية المتوقعة. ويمكن تلخيصها بالآتي:
-1 تخفيض الأرباح والفوائد لمساندة المواطنين والشركات. 
-2 تحويل دفع رسومات بطاقات الهواتف النقالة من المواطن الى عاتق شركات الهواتف.
-3 تحويل السلّة الغذائية (الحصة التموينية) الى دعم مالي وتوزيع الكميات الهائلة التي ستتوفر بسبب هذا الإجراء على المحتاجين كما ويمكن تحويل حصة الأثرياء الى الطبقات الأكثر حاجة.
هذا في ما يتعلق بإصلاح الوضع المالي أما المجال الثاني الذي لا يقل أهمية باحتياجه للمعالجة فهو: الاصلاح الإداري وتحرير القطاع الخاص.
بات واضحاً من خلال تجارب الصين وروسيا بأن أفضل طريقة لضمان النمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي هو فسح المجال للقطاع الأهلي الخاص بالازدهار. لكننا بالعراق ما زلنا نعاني من سيطرة الحكومة والمسؤولين والأحزاب على مقاليد الاقتصاد  خاصة في ظروف هيمنة إيرادات النفط على الحياة الاقتصادية،  إذ من الصعب جداً إعادة تثقيف المسؤول أو الموظف الحكومي بوقت قصير على أنه عاملٌ في خدمة المواطن وليس العكس وأنّ من واجب الدولة وموظفيها مساندة ودعم القطاعات الخاصة لا محاربتها ووضع العراقيل أمامها واعتبارها منافساً للدولة. وهذا يمكن حلّه بالآتي:
 
-1 تقليص الروتين والنمطية البيروقراطية وذلك بإلغاء أكبر عدد ممكن من الإجراءات والموافقات الرسمية المجحفة المفروضة على المواطن والقطاع الاقتصادي.
-2  تحويل أكبر عدد ممكن من الموظفين الراكدين في دوائر مكتبية غير منتجة الى قطاعات منتجة.
-3 تبني سياسات تشجع انفتاح الاقتصاد والالتحاق بممارسات القرن الواحد والعشرين وليس ممارسات الستينيات من القرن الماضي عن طريق تطوير وتحرير القطاع المصرفي، والإئتمان، والحسابات، والأوراق المالية، وقطاع الاتصالات و خاصةً الانترنت، وتعديل القوانين التجارية المعرقلة، وتسهيل السفر والنقل الداخلي.
-4 تطوير المؤسسات المالية والاقتصادية بتدريب المسؤولين والموظفين في القطاع الحكومي والأهلي بالأساليب الإدارية والفنية الحديثة المعروفة والمعترف بها دولياً. 
-5 ضمان تطبيق القوانين التجارية.
-6 تقليص التدخل الحكومي بإدارة الشركات الحكومية والأهلية وترك القرارات المالية والاستثمارية والتعيينات الى مجالس الإدارة أو أصحاب الشركات.
-7 حصر مسؤولية الحكومة بالآتي:
-1 ضمان حقوق المالك إن كانت ملك الحكومة أو قطاع خاص عراقي او اجنبي.
-2 ضمان سلامة وحقوق الموظفين والعمال والفلاحين. 
-3 حماية حقوق وسلامة المستهلك.
-4 حماية البيئة والصحة العامة. وهذا لا يعني تنازل الحكومة عن دورها في رسم وتطبيق السياسات الاقتصادية العامة أو تبنّي مشاريع البنى التحتيّة.
 
مما لا شك فيه إن الاقتصاد العراقي عانى منذ سنين من سياسة التقشف الاقتصادي سواء من الناحية المالية أو النقدية؛ وذلك بسبب الفوائد العالية وسحب السيولة من السوق وعدم الالتزام بدفع مستحقات الموظفين أو الشركات وتقليص الميزانية الاستثمارية. 
فكانت نتيجة هذه السياسة هو الركود الاقتصادي وازدياد حالة البطالة وانتشار الفقر وتجميد أي إمكانية  للتطور والتطوير. وعليه فليس أمام الحكومة إلّا الاستغناء عن السياسة التقشفية وتبنّي سياسة اقتصادية توسعية لتشجيع النمو الاقتصادي بعيداً عن الاعتماد على القطاع النفطي فقط مثلا : 
-1 تخفيض الفوائد 
-2 ضخ السيولة في السوق 
-3 دفع جميع الرواتب والمستحقات المتأخرة 
-4 تبني سياسة استبدال الاستيراد بالإنتاج المحلي ( Import Substitution ) 
-5 تخفيض سعر صرف الدينار من أجل دعم المنتوج المحلي.                 
كما لا يوجد خوف من التضخم لأنّ الاقتصاد في حالة ركود ومعدل التضخم العالمي أقل من 2 ٪.
 
المشاريع الحكومية:
مما لا شك فيه انّ الحكومة هي المسؤول الأول بضمان تقديم الخدمات الأساسية للمواطن كالكهرباء ومياه الشرب النظيفة والتعليم والصحة، سواء كان عملها على هذه الخدمات بشكل منفرد أو بالتعاون مع القطاع الخاص.  لكن ثمّة قطاعات اقتصادية معينة يجب رعايتها بشكل خاص لأسباب تأثيرها على الوضع الاقتصادي والاجتماعي العام. 
 
القطاع السكني:
يواجه العراق أزمة سكنيّة خطيرة جداً والازمة مستمرة في تزايد وتصاعد مما يجعل من واجب الحكومة الموافقة على  مشاريع بناء الدور السكنيّة لأهل المخيمات والعشوائيات وذوي الدخل المحدود والدخل المتوسط. فالعمل على مثل هذي المشارع فيه فوائد اقتصادية ثانوية لدعم الاستثمار في القطاع السكني. 
اولاً: عملية البناء تحتاج الى نسبة عالية من الأيدي العاملة وبهذا يمكن الحد من البطالة. 
 ثانياً: اعتماد التطور في تكنولوجية البناء لأنّها سهّلت عملية وسرعة البناء وخفّضت التكاليف.
 ثالثاً: تعلّم تكنولوجية البناء أمرٌ سهل جداً ولا يحتاج لخبرة عالية.
رابعاً: ٩٠٪ من مواد البناء ممكن أن تتوفر محلياً وهذا يساعد على تحريك الاقتصاد المحلي.
خامساً: عادةً ٥٠٪ من تكاليف البناء هو سعر شراء العقار وهذا ممكن تقديمه مجاناً من قبل الحكومة.
سادساً: استحالة التنافس من مستورد.
سابعاً: مشاريع بناء الأحياء السكنية التي يجب أن تتضمن جميع الخدمات الحديثة كالمدارس والمستشفيات، والمجالات الترفيهية كالحدائق والمتنزهات ودور السينما والملاعب الرياضية والأسواق والمولات مما يخلق فرص عمل كثيرة، وكذلك تشجيع تواجد الصناعات الخفيفة والثقيلة والقطاع التجاري ايضاً وهذا هو معنى بناء احياء كاملة منتجة حديثة متطورة. فمثل هذه المشاريع تحرك الاقتصاد لسنين طويلة وترفع من المستوى المعيشي لشرائح واسعة من المجتمع بدون استعمال واردات النفط. 
 
القطاع الزراعي:
عُرفت أرض العراق قديماً بأرض السواد لما لطبيعة تربتها من مقومات فريدة وإيجابية كثيرة لتطوير القطاع الزراعي آنذاك. ولا يختلف الحال اليوم فالأرض ما زالت هي ذات الأرض القديمة فالدعم الجاد للقطاع الزراعي يجب أن لا يقتصر على توزيع البذور والسماد والمبيدات بسعر مدعوم. بل يجب أن يُنظَر الى القطاع الزراعي على أنه داعم للاقتصاد و ليس عبئاً يستهلك الإيرادات النفطية.
ومن خلال متابعتنا وجدنا بأن القطاع الزراعي يحتاج الى: 
-1 استراتيجية مائية علمية واقعية وشفافة.
-2  تدريب وتمرين الفلاحين وأصحاب المزارع بالتقنيات والأساليب الإدارية والفنية الحديثة. 
-3  تطوير البنى التحتية للقطاع الزراعي كتخزين المحاصيل والمواصلات والخدمات البيطرية  والبزل ومكافحة الآفات.
-4  تطوير آليات تحضير وتعليب وتسويق المنتجات الزراعية بما يتناسب مع معايير الجودة العالمية.
-5  إعطاء الفلاح والمزارع حرية إدارة مزرعته و ما يزرعه. 
-6  تحويل جميع الأراضي الزراعية الى ملك صرف ورفع كل القيود على حجم الملكية والسماح لبيع وشراء الأراضي الزراعية بكل حرية تشجيعاً للفلاح والمزارع الناجح بغية معالجة انقسام المزارع الى حقول صغيرة  غير مجدية اقتصادياً. 
-7 حماية المنتوجات المحلية من الاستيراد المدعوم وغير المشروع. 
إنّ عملية دعم القطاع الزراعي ستساعد في رفع المستوى المعيشي لقطاعات واسعة من المجتمع بطريقة سهلة وسريعة وفعّالة وتعالج مشكلة استعمال كميات هائلة من الإيرادات النفطية لاستيراد الغذاء والمنتوجات الزراعية بدلاً عن استعمالها لبناء المستشفيات والمدارس. 
 
قطاع البتروكيمياويات:
من الواضح جداً أنّ السياسات النفطية للحكومات المتعاقبة على العراق لم تنتبه ولم تستفد من الاحتياط النفطي الهائل الموجود في العراق. فمن المؤسف أن نقول إنّ العراق ليس فقط ما زال يستورد كميات كبيرة من المشتقات النفطية بل القائمون على الصناعات النفطية لم يطوروا القطاع الصناعي البتروكيمياوي كالمبيدات والسماد والبلاستيك والكاوچوك المصطنع والصبغ والصمغ ومواد البناء والعلب والأكياس والثياب والأدوية والصابون ومستحضرات التجميل الى آخر الصناعات البتروكيماوية. فقد آن الأوان للحكومة بأن تستغل الأسعار التنافسية لاحتياط العراق النفطي وتتبنى سياسات جديدة لدعم هذه الصناعات.  
 
التطبيق:
بالتأكيد لم يعد كافياً أمام الحكومة اعتماد حسن النوايا فقط، أو التلويح للمواطن بأنّها تملك أحسن الخطط الاقتصادية مع انعدام وجود آليات التنفيذ الجادة.  وهو نقص واضح عند الدولة وإن أرادت الدولة أن يثق بها المواطن فعلى حكومتها اتخاذ السياسات والآليات الصحيحة لضمان تطبيق سياستها. 
ومنها:
 أولاً: الإرادة السياسية.
ثانياً : التوافق والتنسيق بين الوزارات على الملفات المشتركة
 ثالثاً: تحديد جدول زمني واقعي وواضح 
ومحدد لتنفيذ الخطوات المتسلسلة لأي خطة اقتصادية.
رابعاً: الاستعانة بخبراء محايدين ومستقلين من خارج الحكومة من أجل تقييم السياسة الاقتصادية.
سادساً: مشاركة الأطراف المعنية من خارج الحكومة أو التي تتدخل بتطبيق خطة ما كأعضاء مجلس النواب، الإعلام، رجال الأعمال، النقابات، المصارف، الحكومات المحلية، مراكز الدراسات، الجامعات، والرموز الاجتماعية او المحلية، من أجل مساندة و مشاركة و تعاون كل هذه الأطراف لضمان نجاح الخطة الاقتصادية المطروحة. 
 
الخلاصة:
صحيحٌ جداً أنّ دولاً كالصين وتايوان وكوريا الجنوبية قد وصلوا الى مستويات عالية جداً من التطور الاقتصادي في فترة قصيرة نسبياً لكن الواقع يقول بأن هذا التطور لم يأتِ من الأحلام بل كان نتيجة عمل دؤوب وخطط لم تنقطع يوماً بدأت منذ سبعينيات القرن الماضي أي قرابة خمسين عاماً من العمل والمثابرة والاجتهاد.
 فهذه الدول لم تنجح لأنّها تملك حظاً جيداً ولا لأنّها تملك موارد نفطية بل لأنّها تمسكت بإرادتها الحقيقية وكانت نواياهم بالعمل لرفع بلدهم صادقة وخططهم مدروسة وكانت لديهم وحدة هدف واضحة بالاصطفاف والاستعداد للتضحية من اجل الخروج من قائمة الدول الفقيرة الى قائمة الدول المتطورة والمتقدمة. وهذا ما علينا فعله كشعب، علينا أن نتكاتف من أجل إخراج مجتمعنا من الجهل والفقر والتخلف ونبني مجتمعاً حديثاً متطوراً ومتنوراً مهما كلّف الأمر ومهما طال الزمن فرحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.