تركز تقارير المتابعة الإعلامية اليوميَّة لتطورات أسواق النفط العالميَّة على متغيرات آليات السوق التي تحدد سعر برميل النفط وطالما أهملت، متعمدة، ذكر التدخلات السياسيَّة المفتعلة للتأثير في الأسعار. فلو أنَّ الهجمات على منشآت “أرامكو” النفطية في المملكة العربية السعودية في 14 أيلول 2019، وعلى السفن الناقلة للنفط في الخليج العربي قد حدثت قبل عقد أو عقدين من الزمن لتجاوز سعر البرميل 100 دولار خلال أسبوع من وقوع مثل تلك الأحداث.
وكما يحدث الآن وما حدث على مدى عقود من الزمن فإنَّ التدخلات السياسيَّة المفتعلة في أسواق النفط كانت عامل قوة بيد مستوردي النفط الخام، وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركيَّة، لخفض الأسعار.
الرئيس الأميركي “دونالد ترامب” يريد أنْ يبقي ورقة الاقتصاد القوية للتأثير في الناخب الأميركي لصالحه في الانتخابات الرئاسية عام 2020 وذلك ببقاء سعر غالون البنزين المستهلك داخل الولايات المتحدة منخفضاً ما أمكن (معدل سعر الغالون حالياً في الولايات المتحدة 2.7 دولار).
وكان ترامب قد أعلن، كما اعتاد أنْ يظهر قوياً متفاخراً متجاوزاً محاولات خصومه في الحزب الديمقرطي لخلعه “أصبحنا الآن المنتج الأول للطاقة في العالم، ولا نحتاج إلى نفط وغاز الشرق الأوسط”، ويضيف “عندما يكون لديك أفضل أرقام للتوظيف في التاريخ، وعندما يكون لديك أقل أرقام للبطالة في التاريخ، وعندما يكون لديك أفضل اقتصاد على الإطلاق، لم أكن أعرف - كيف بحق الجحيم سأخسر هذه الانتخابات:”، (فضائية الحرة 16 أيلول 2019).
ففي أعقاب الهجمات على منشآت أرامكو السعودية، أعلن ترامب تفويضًا بالإفراج عن النفط من الاحتياطي الستراتيجي للنفط الأميركي. علما أنَّ المخزونات الحكومية ليست كافية ستراتيجياً. ففي الوقت الحالي، هناك 645 مليون برميل من النفط الخام، أي أكثر من 1.5 مرة من الكمية الموجودة في المخزونات الأميركية الخاصة.
فمن شأن المخزون الضخم أنْ يوفر بالكامل استهلاك الخام الأميركي لمدة شهر كامل تقريبًا. ومع متوسط سعر مدفوع قدره 29.70 دولار للبرميل الواحد من
النفط.
وإذا علمنا أنَّ تكلفة المخزون الستراتيجي الحالي للحكومة الأميركية 19.2 مليار دولار لملئها. حتى في أسعار السوق اليوم، فإنَّ القيمة المتزايدة لهذا المخزون الخام لا تعوض تكاليف البدائل المتاحة لفترة طويلة. كل هذا مجرد انخفاض في التموين مقارنة بالتكاليف الرأسمالية لبناء وصيانة ما قد يكون أعظم خزين ستراتيجي في تاريخ الولايات المتحدة. ولكي تخدم الاقتصاد الأميركي بشكل أفضل، يجب إزالة التدخلات السياسيَّة واستبدالها بنهج قائم على السوق. (ستيف هانكي 27 أيلول 2019) Forbes)).
وللبرهنة على الحاجة المتزايدة للنفط الخام المستورد من قبل معظم مستوردي النفط الخام (المستهلكين) وفي مقدمتهم الولايات المتحدة الأميركيَّة نستحضر المقارنة بين أقصى ما تنتجه الولايات المتحدة يوميًا من النفط الخام وبين ما تستهلكه يومياً منه. فإدارة معلومات الطاقة الأميركيَّة(EIA) تقول إنَّ المستوى الحالي لإنتاج الولايات المتحدة من النفط الخام اعتباراً من أيلول 2019 هو (12 مليوناً و500 ألف) برميل يومياً.
ويأتي هذا الإنجاز بعد أقل من عام من إنتاج النفط الخام الأميركي الذي تجاوز 11 مليون برميل يوميًا في آب 2018. مقابل الإنتاج اليومي من النفط الخام تستهلك الولايات المتحدة ما مجموعه 7.28 مليون برميل من المنتجات البترولية، بمعدل نحو 19.96 مليون برميل يوميًا حسب إحصاءات إدارة معلومات الطاقة الأميركيَّة لعام
2017.
وإذا علمنا أنَّ كمية صغيرة فقط من النفط الخام يتم استهلاكها مباشرة في الولايات المتحدة، إذ يتم تكرير كل النفط الخام الذي ينتج ويستورد إلى الولايات المتحدة تقريبًا ويحوّل إلى خزين ستراتيجي من إلى المشتقات النفطية مثل البنزين ووقود الديزل وزيت التدفئة ووقود الطائرات النفاثة، كما يتم استهلاك السوائل الناتجة من معالجة الغاز الطبيعي كمنتجات نفطيَّة، ذلك إضافة إلى أنواع من الوقود الحيوي المتجددة، مثل الإيثانول والديزل الحيوي، كبديل أو كمضافات للمنتجات البترولية المكررة. وحتى نهاية عام 2018 استهلكت الولايات المتحدة نحو 20.5 مليون برميل من النفط يوميًا، أو ما مجموعه نحو 7.5 مليون برميل من المنتجات
البتروليَّة.
بمعنى أنَّ هناك هوة فاصلة بين ما تنتجه الولايات المتحدة الأميركيَّة وبين ما تستهلكه من النفط الخام تتجاوز 8 ملايين برميل يومياً عام 2019 على اعتبار أنَّ نمو الاقتصاد الأميركي في تصاعد وقد يتجاوز 3 % عام
2020.
لذلك فإنَّ منطق آليات السوق، بعيداً عن التدخلات السياسيَّة، يرجح تصاعد أسعار النفط خلال المتبقي من عام 2019 والأعوام المقبلة بدعم من التوترات في منطقة الشرق الأوسط. وعلى منظمة الدول المنتجة للنفط (أوبك) إدراك ذلك ورسم سياستها لصالح أعضائها بالحفاظ على أسواق متوازنة لا “تخمة للمعروض” التي طالما كانت سبباً بتدني أسعار النفط وإلحاق الأضرار بالموارد الماليَّة للدول
المصدرة.