الجواهري ودجلة الخير

ثقافة 2019/10/01
...

د. حسين القاصد 
كنت قبل أيام ضيفا على كلية التربية في جامعة واسط، حيث مناقشة رسالة ماجستير تبحث في (شعر المناسبات عند الجواهري مفهومه وتمثلاته)، وكان الباحث موفقا في دراسته وبحثه، غير أن بعض الذين تناولوا الجواهري، حسبوا أو تبرعوا اجتهادا أو اعتباطا، بأن (يا دجلة الخير) قصيدة مناسباتية؛ وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أن الجواهري يكون في ذروة واعلى درجات الصدق حين يهجو أو حين يحتاج ويضعف! .
كتب الجواهري (يا دجلة الخير) بعد أن غادر العراق على أثر خلاف مع عبد الكريم قاسم، وكانت نوازع الجواهري سبب ذلك الخلاف، وهي الحادثة التي يذكر بعض تفاصيلها في مذكراته (ذكرياتي)؛ فبعد مقال الجواهري عمّا يجري في الميمونة، صادف أن زار وفد اتحاد الأدباء رئيس الوزراء او الزعيم عبد الكريم قاسم، وفي ثنايا الحديث توجه الزعيم إلى الجواهري بسؤال (ماذا جرى في الميمونة) يا استاذنا الجواهري، وللأمانة حتى لحظة خلافهما وبعدها، كان الزعيم يخاطب الجواهري بكلمة (استاذنا)؛ فما كان من الجواهري إلّا أن قال: انت قمعت الناس بشرطة نوري السعيد، فقال الزعيم: وانت مدحت نوري السعيد، فاحتدم الأمر بينهما وفقد الجواهري آخر احلامه بالحصول على وزارة كان يسعى اليها من ايام فيصل الأول ! . 
بعد هذه الحادثة قرر الجواهري الهجرة في عز سلطته النقابية فهو ذو الوزارتين الثقافة والاعلام، لكنّه ليس وزيرا بل رئيس اتحاد الأدباء ونقيب الصحفيين، وهما يعنيان الثقافة (اتحاد الأدباء) والاعلام (نقابة الصحفيين) لكن عقدة المنصب وحياته الفقيرة في طفولته، كل هذا أرقه ودفعه لقطع الوصل مع أحب الرؤساء إليه؛ وأقول احب الرؤساء إليه بدلالة (يا دجلة الخير) فقد كتبها عام ١٩٦٢ وفيها طلبٌ يشوبه الخجل والكبرياء، وهو أن يدعوه عبد الكريم قاسم للعودة للعراق؛ لكن الأحداث اسرع، وقد استشهد الزعيم في ٨ شباط، بدعم مشبوه من
 جمال عبد الناصر .
وكي أؤكد عدم قطع الود بين الجواهري والزعيم على الرغم من هجرة الجواهري، أجيء بدجلة الخير دليلا، فإلى من يحن الجواهري في بلد يحكمه خصمه (كما هو مفترض)، اما الدليل الأنصع على بقاء حبل الود بينهما، هو غضبة الجواهري حين اغتالوا عبد الكريم قاسم، إذ أطلق العنان بنار غضبه على عبد السلام عارف في قصيدته التي مطلعها : 
يا عبد حربٍ ليس عبد السلام !! 
هنا، تحديدا، تم تحنيط الحنين الجامح في دجلة الخير، فقد كان الشاعر يحن إلى حياته في كنف من أكرمه، لا في كنف من قتل
 من أكرمه! 
بعد دجلة الخير بستة أعوام ويضعة شهور، ظهرت قصيدة (أرح ركابك) بعد أن عاد واستقبله انقلابيو ١٩٦٨ واكرموه واعادوه رئيسا
 للاتحاد .
بقي لكاتب هذه السطور أن يعتقد بأن  (أرح ركابك) كتبت مع (دجلة الخير) في الوقت نفسه، لأن الجواهري – سياسيا-  يجيد القصائد المهيأة، ولعله كان يتوقع استجابة الزعيم قاسم لينشد ارح ركابك، وشاءت الأقدار أن يريح ركابه في كنف قتلة اقرب الرؤساء إلى نفسه والى حلمه في أن يكون وزيرا !! .