تتمّ كتابة الرواية عندما يكون هناك روائي وتكون هناك حكاية، لايمكن كتابة رواية دون هذه الثنائية، الحكاية لايبتدعها الروائي، والروائي لا يقدم حكاية في روايته، بل ان الروائي لا يعرف كيف يكتب الحكاية، بينما تعرف الحكاية كيف تبني بيتها الفني. قد يبدو ذلك غريبا في وضع مثل وضع كتاب الرواية عندنا، إنّهم يختارون حكاية من بنات أفكارهم لرواياتهم، ويروحون يكتبون اطراف وابعاد الحكاية بعد أن يهيئوا لها أماكن وتواريخ وشخصيات وتقلبات الأحداث، في حين ان الروائي لا يختار الحكاية.
إن لم نقل الحكاية تختار الروائي، والأدلة كثيرة، خبر صغير نشر في صحيفة روسية عن مقتل مرابية عجوز جعلت دستييفسكي يكتب الجريمة والعقاب، لان الحكاية تعرف إلى اين تتجه، بينما دستييفسكي يعرف ان الحكاية اكبر من الجريمة فاتخذها مادة لروايته.
فالأحداث تخلق حكاياتها، ولنا في التراث الشعبي المئات من الحالات التي كتبت فيها الحكاية احداثها خاصة في ألف ليلة وليلة.
ما يهمّنا في هذه العجالة المقتضبة، أن الكلام بنوعيه: كلام الحدث وكلام المسرود حسب تعبير تودوروف هو الذي يكتب الرواية، ففي كلام الحدث تكون الشخصية مشاركة في الحدث، وهذا النوع من الروايات يفرض الاشخاص والأمكنة وطرائق القول، في حين ان الكلام المسرود، كالكلام الذي ترويه شهرزاد، يولد الحكاية ولا ينتهي منها إلّا لبداية غيرها، الكلام الحدث يؤدي إلى موت الشخصية لان الشخصيات تحاول ان تكون حدثا للحكاية، بينما في الكلام المسرود تتبع تطور الشخصيات في
الحكاية.
تعرف الحكاية إلى اين تذهب، لأنّ كلامها سيتجول في حقول الوقائع المادية والخيالية، في هذا الحقل الإنساني الخصب الذي ما ان تبدأ فيه حتى يتغيّر، انه مجرى الزمن المائي المنتقل والمخصب للأرض، الحكاية تشق طريقها للإبلاغ في اي مكان مهما كانت طبيعته، وفي اي زمان مهما كان موضعه، ومع اية شخصية مهما كانت هويتها، ومع أي حدث مهما كانت طبيعته، لذلك يقال الحكاية تعرف إلى اين تذهب، بينما الروائي لا يعرف الذهاب إلى أي موضع، دون ان يكون بصحبة الحكاية.
يقول تودوروف “الحكي يعادل الحياة، والمسرود يساوي الحياة، وغياب المسرود يساوي الموت” والكتاب الذي لايحكي اية حكاية يقتل، لكي تتمكن الشخصيات من الحياة عليها أن تحكي” وثمة اقوال وأمثلة أن الحكاية تعني الحياة، حياتنا الشخصية وحياتنا الاجتماعية، وهي وحدها التي تؤلف كيانها، المؤلف الذي لايعرف الوصول إلى حكاية الشخصية أو حكاية مجتمع ما، لايؤلف رواية، لأنه يتقدم الحكاية، في حين عليه ان يكون خلفها ليرى الكيفية التي تسلكها الحكاية للدخول إلى المجتمع والكيفية التي تبني بها اسلوبها والمديات الفكرية التي تشغلها.
في تضاعيف الرؤى النقدية لكتاب كبار نجدهم يعودون بين آونة واخرى لالف ليلة وليلة، ليعدلوا من انتاج أدواتهم المعرفية من خلال قراءاتهم الجديدة لها، فالكتابة تأتي متأخرة عن الفكرة، والف ليلة وليلة ليست أفكارًا، بل كلام يبتدع حكايته، وبالرغم من التشابه السردي بين حكاياتها، لا نجد حكاية تشبه الأخرى.
وفي الليلة الستمئة واثنين، وعندما وصلت الحكايات إلى نهاياتها المفتوحة على الأزمنة والأمكنة، حكت شهرزاد حكاية الملك شهريار نفسه، الحكاية التي ابتدأت بها الليالي، وكان بطلاها شهريار واخوه شاه زمان، هذا يعني ان في جوف الحكاية الإطار، ثمة سرديات اخرى تروى كحكاية وليست كحدث، لما سمع الملك حكايته استغرب من انه كان بطلها، لأنه كان جزءا من الحكاية وليس مبتدعا للحكاية.
مما يعني ان الليالي ليست احداثا تروى، ولا سيرا تقرأ، بل هي حكاية متشعبة تعرف الى اين تتجه، وفي طريقها للإبلاغ تسحب معها كونيات تاريخية وواقعية وخيالية واحتمالية، الأمر الذي جعلها مفتوحة على كل الأزمنة بما فيها الأزمنة التي ستأتي بعدنا.