التظاهرات والاحتجاجات الشعبية ليست جديدة على ثقافة الشارع العراقي، فقد شهدت الحقبة الملكية حراكاً شعبياً كبيراً سواء ضد الحكومات أم تضامناً مع القضايا القومية، لا سيما قضية فلسطين، وقد تلاشت تدريجياً مع صعود الأنظمة الشمولية، حتى باتت عملاً محرماً يمس بذات الطاغية وشرعية حزبه أو بالأحرى عصابته، لكن بعد سقوط النظام وإزالة حواجز الخوف أصبحت التظاهرات عملاً وطنياً الغاية منه توجيه أنظار الحكومات للإصلاح ومكافحة الفساد، ويفترض أن هذا المطلب يتناغم مع ما تعدنا به الحكومات، فالجميع ينادي بالإصلاح، وعلى الجهات المسؤولة أن تراعي مطالب المتظاهرين وتستوعب غاياتهم على محمل حسن النية، بعيداً عن التشكيك والاتهامات، نعم قد تركب بعض الجهات الموجة بغية التخريب وإحداث الفوضى، وقد يسعى البعض إلى تسييس التظاهرات، لكن يبقى الأهم من هذا وذاك مطالب
الناس.
الدستور العراقي يسمح بالتظاهر، والتظاهرات غالباً سلمية يقودها شباب متنورون ومنظمات مدنية تعرف حدودها على وفق القانون، قد يتسلل إليها بعض الفوضويين والمندسين وربما بعض البعثيين والمخربين وأعداء العراق والتجربة الديمقراطية وبعض المتضررين من التغيير، نقول قد، أو نفترض ذلك، وهؤلاء قلة ضئيلة لا قبول لها بين المتظاهرين، فهم ليسوا مبرراً كافياً لمنع التظاهر بوصفه حالة صحية من حالات التعبير عن الرأي التي وفرتها الديمقراطية.
الحكومة عبرت في أكثر من موقف عن تعرضها لضغوطات الأحزاب والمحاصصة وعرقلة الإصلاح مثلما تتعرض لضغوطات إقليمية ودولية في اتخاذ بعض القرارات، وفي الوقت نفسه تقف عاجزة عن اتخاذ قرارات سريعة لمعالجة بعض الأزمات، فقرار صغير من مجلس الوزراء بسحب التراخيص النفطية من الشركات التي أخلت بشرط تشغيل الأيادي العاملة العراقية بدلاً عن الأجنبية كفيل بتشغيل آلاف الشباب العاطل عن العمل، قرار صغير آخر بإعادة النظر بالسن القانونية للتقاعد مع مراعاة الفروقات المادية كفيل بتوفير آلاف الدرجات الوظيفية، إجراءات جدية بإعادة تأهيل بعض المصانع العراقية، لا سيما تلك التي كانت تنتج سلعاً استهلاكية بنوعيات تضاهي المستوردة كمعامل النسيج والأسمنت والسكر والبطاريات والإطارات والسلع الكهربائية والمصابيح والألبان والجلود والزجاجيات والبتروكيماويات والمشروبات الغازية والسجائر والألبسة وغيرها مع مراعاة تحسين النوعيات باستيراد أو تطوير المعدات والمكائن كفيل بتشغيل آلاف أخرى، تطوير القطاع الزراعي بإقامة مزارع وحقول حيوانات جماعية تمول بمنح لإنتاج المحاصيل الصناعية التي تحتاجها المصانع، سيوفر أيضاً فرصاً أخرى، إطلاق القروض العقارية وتسهيل الإجراءات والسرعة بإنجاز المعاملات بدلاً عن تعرض المواطنين للابتزاز، مع مراعاة التكاليف الحقيقية للبناء سيسهم حتماً بتشغيل قطاعات عديدة في سوق العمل، والأهم من هذا كله توفير فرص الاستثمار للشركات العالمية الكبرى مع شرط استثمار الطاقات العراقية، ثم مراقبة ملف العمالة الخارجية، ومراعاة التخطيط لمخرجات الجامعة بحسب حاجة سوق العمل، وهناك منافذ أخرى للنهوض بالواقع الاقتصادي للمواطن في ظل الاستتباب الأمني، وعلى الحكومة أولاً ثم المتظاهرين
أن يفوتوا الفرصة على المخربين والمتربصين بالحكمة، فمصلحة المواطن أولاً وأخيراً.