التظاهرات العراقيَّة .. الأسباب والمسؤوليات ...

آراء 2019/10/08
...

علي حسن الفواز
 
الدفاع عن الديمقراطية هو الدفاع عن مشروع الدولة وعن حق الناس في العيش ضمن اطار ومؤسسات تلك الدولة الدستورية والسياسية والاجتماعية والحقوقية، واذا كانت التظاهرات الشعبية التي انطلقت في بغداد وعدد من المحافظات تمثّل وجها من وجوه الحق الديمقراطي، فإنّ حمايتها والتعاطي مع مطالبها وشعاراتها يمثّل-  ايضا- المسؤولية الدستورية التي ينبغي أن تمارسها الدولة، على مستوى مؤسساتها الأمنية أو التنفيذية.
 
إنّ ما جرى خلال الايام الماضية من أحداث عكست في واقعها التحدي الابرز للدولة وللديمقراطية في آنٍ معا، مثلما عكست في واقعها ازمة ادارة الدولة منذ اكثر من خمسة عشر عاما، وفشلها في معالجة مظاهر الفساد، والضعف الهيكلي لبنية مؤسساتها، فضلا عن معالجة مظاهر تشوه الديمقراطية ذاتها، على مستوى تمييع اسسها وبرامجها واهدافها، أو على مستوى تضخم بعض اطرها غير الفاعلة، مثل ضعف الوعي الانتخابي/ الديمقراطي، والجدّة في اختيار الممثلين الحقيقيين لارادة الجمهور، فضلا عن ترهل بعض مؤسساتها مثل مجالس المحافظات ومجالس الاقضية النواحي، والتي تحولت الى فضاءات للصراع غير المسؤول بين الكتل السياسية، إذ كان لها أثرها السلبي في تعطيل كثير من برامج التنمية والخدمات، وتنفيذ المشاريع ذات العلاقة بحاجات الناس في العمل 
والمعيش.
 
بين الحق والواجب.
لقد عكست تظاهرات تشرين 2019 واقعا اجتماعيا وحقوقيا صعبا، تبدى من خلالها ماهو عميق في  أزمة الدولة العراقية، وفي ادارة الملفات الكبرى، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وحتى الثقافية، فضلا عن ماكشفته من تراكمات لم تستطع الحكومات السابقة التعاطي معها بواقعية، وبمسؤولية، وتركتها لمزيد من التعطيل والتسويف، وهو مادفع جمهور التظاهرات باجيالها الشابة، الى قيادة تظاهرات غير مسبوقة، وبوتيرة عالية وحادة شابها العنف، ومن الممارسات التي ادت- للاسف- الى سقوط عدد من الضحايا بين المتظاهرين وبين رجال الامن.
هذه الصورة الصادمة تعكس في دلالتها واقعا مأزوما، وتفصح عن مشكلات تحتاج الى معالجات واقعية وعقلانية، بعضها آنيٌّ وسريع، والبعض الاخر يتطلب تخطيطا وتأطيرا فاعلا ومسؤولا، وفي سياق له علاقة بتشريع وإقرار القوانين ذات الصلة، وبالاجراءات العملياتية التي تكفل حق الانسان بالمعيش والمواطنة والرفاهية، مثلما تكفل وتحدد مسؤوليات الدولة بتأمين ذلك الحق دستوريا وشرعيا.
إنّ حماية المواطن لاتعني تحويله الى مواطن يأكل ويشرب وينام، بقدر ما تعني  تأطير صورته في سياق حقوقي وثقافي، وعلى وفق ما تتطلبه سياقات العمل الديمقراطي، على مستوى الاختيار والمشاركة، وعلى مستوى تمتعه بحقوقه الدستورية في التعبير عن رأيه، وفي اختيار مواقفه، وفي تأمين عمله ومعيشه وسفره، وعبر سياقات عمل مؤسسية حمائية وليست رقابية أو بيروقراطية كما هو موجود في الواقع الآن، والذي جعل من المواطن العراقي يكره الديمقراطية!! ويربط كثيرا من نتائجها بصعود طبقة من الفاسدين سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، إذ شوّهت هذه الطبقة قيم الديمقراطية، وقيم التداول السلمي للسلطة، وفرضت ارادتها على المجتمع من خلال الهيمنة، وسرقة المال العام، فضلا عن تعويق أيّ مسار للتنمية وللتحضّر، وللعمران الثقافي المؤسسي والفردي.
 
مسؤولية الجميع
وقوع احداث مؤسفة بين المتظاهرين، وافراط بعض الجهات الامنية باستخدام القوة، وقيام بعض المتظاهرين بالتجاوز وحرق بعض مؤسسات الدولة والمحال العامة، يكشف عن معطيات ينبغي الوقوف عندها، على مستوى اشاعة ثقافة التظاهر بوصفه حقا دستوريا، وعدم اللجوء لأساليب العنف والتجاوز على المال العام، أو على مستوى محاسبة بعض الجهات الامنية التي استخدمت العنف ضد المتظاهرين، والتي تحولت الى مادة دسمة لوسائل الاعلام المهنية أو المغرضة، إذ حاول البعض منها تحويل التظاهرات الى مادة سياسية لاثارة الصراعات والنعرات والكراهيات، وهو مايعني حرف التظاهرات عن اهدافها  الحقيقية.
إن ماينبغي تسليط الضوء عليه في هذا المجال هو البحث عن السبب الذي جعل من هذه التظاهرات ذات طابعٍ عنفي، واحسب أنه يرتبط بشيوع (ثقافة الفساد) واستسهاله، لأن الدولة لم تمارس مسؤولياتها في المحاسبة، والرقابة، وفي وضع الخطط والبرامج التي تكفل سياقات عمل تلك المحاسبة والرقابة، فالحديث عن اقالة (1000) موظف حكومي بسبب فسادهم، لايعني سوى الكشف عن رأس جبل الجليد، لأنّ الحيتان الكبيرة من الفاسدين مازالوا في القاع، وربما كان منهم مسؤولون كبار في مؤسسات الدولة، لان الكشف عن الصغار، سيقود، وبسهولة الى ايجاد صغار اخرين ينفذون ذات المهام الفاسدة، لذا بات من المسؤولية أن تعمل مؤسسات الدولة على وفق نظام الحوكمة، والى تفعيل مشروع (الحكومة الالكترونية) بوصفها اجراءات رادعة للفاسدين، ولكلّ الممارسات الروتينية والبيروقراطية، والتي نعدّها اجراءات مسؤولة عن انتاج البيئة الصالحة للفساد والفاسدين، فهدر المال العام، وتلكؤ المشاريع الكبرى التنموية والانتاجية والخدماتية تجد في (النظام الحالي) فرصا مفتوحة، وغير خاضعة للرقابة والردع، لتضييع ومسخ هوية الدولة الديمقراطية والحقوقية، وحتى 
التنموية.
إنّ مارافق التظاهرات من احداث يتطلب وقفة ومراجعة جادة، والى مواقف فاعلة وحقيقية، ليس لأنها نُذرٌ بالخطر الذي يهدد الجميع، ولامكانية اعطاء فرص سهلة لعودة الارهاب باشكاله المتعددة، بل لأنها تكشف في جوهرها عن مشكلة (الدولة العراقية) وعن (محنة الديمقراطية) والتي بات الرهان عليها محفوفا بكثير من الاخطار، إذ ينبغي أن نضع في حسابنا جميع الاحتمالات، وجميع الحلول ايضا، لاسيما تلك التي طرحتها المرجعية الرشيدة، ورئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الوزراء..