أسعد اللامي وأحلام البقاء

ثقافة 2019/10/09
...

ناجح المعموري 
 
تثير رواية «احلام العبوة الرابعة» للقاص اسعد اللامي سؤالاً سيكون له حضوره في نوعية التلقي ويرسم حدود الاطار الدقيق لفحص الوحدات السردية التي صاغت معاً، عبر التتالي المرن والهادئ للبنية السردية للعمل، مع الحفاظ على نوع من العلاقة الممتدة بين كل الوحدات وشكلت المستوى السببي للرواية
ويتشظى السؤال منقسماً الى اثنين ولكل طرف منهما دلالة مغايرة، مختلفة عما ينطوي عليه الثاني، على الرغم من ان الثاني يتم التعامل معه بوصفه نصّاً، لانه استهلال خارجي، مستقل/منفصل، عن الاصل السردي، لكن استقلاليته تتسع الى معانٍ عديدة، متباينة، لا تختلف عن الجوهر الذي صاغته الوحدات السردية الكلية. ولا بد لي من اشارة ضرورية ذات علاقة مباشرة بالشعرية التي منحتها النظرية النقدية الحديثة تعدداً من الرؤى والمفاهيم، بحيث اتسع مجالها وصار فضاء متسعاً، وفر اهم الفرص امام القراءة التي دائماً ما تتمركز حول الجماليات وبلاغة السرد الذي يفيض بالشعرية. كما وجدت بأن القاص اسعد اللامي باختياره نصاً للشاعر رعد زامل فتح منفذاً لها.
وأسهم هذا النص الشعري بدور جوهري عبر ما تمتع به من شعرية ورمزية عن احد الوحدات السردية وهي من المكونات المهمة جداً وسأحاول المرور عليها بشكل سريع لاحقاً.
العتبة السردية الاولى (كان عليَّ ان انتهي من هذا النص بسرعة لأسباب تتعلق بالبقاء على قيد الحياة) السارد محاصر بازمة، ولا اريد اخضاع القراءة لمرجعياتها الخارجية بل اود فحص الرواية اعتماداً على سردياتها العديدة، هي اكثر من الاحلام الاربعة انها ستة نصيات/سرديات، تكاتفت
 معاً. 
كانت العتبة السردية الاولى كشّافا شفّافا عن التوق لاستكمال النص كله، والذهاب سريعاً لما هو مرسوم بذهنه والسرعة الكاشفة عن النص الموجز جداً، ينطوي على امل اخير، وحلم بالبقاء خالداً، والاحتفاظ بحياة، ستظل مروية كبيرة تتناقلها الافراد والجماعات. ويشف النص الاول القصير عن نوع من المحاصرة وتهديد للوجود الحياتي. بمعنى يومئ الى ان الرواية هي سيرة ذاتية، وصفحات لم يقل بها سابقاً، لذا اندفع بحماس وسرعة لتدوين تفاصيل محنته الذاتية واضفى عليها صفة المرونة وتحول سارداً لها. اما النص الشعري الذي كتبه الشاعر زامل فقد اختصر بذكاء وشعرية المأساة الشفاهية كمأساة عامة، وليست تراجيديا السارد او الشاعر. وكان اختيار النص الشعري ذكيا، لانه مرآة كشافة عن الانا/الذات وهذا ما تُضيئه الوحدات البنائية للرواية. ودخل السرد سريعاً الى المرض الملاحق للراوي الذي استعجل الحفاظ على حياته عبر روايته التي يجب عليه استكمالها بزمن قياسي. وقلنا بأن الراوي صار حكواتياً وشهرزاد هي التي تنصت اليه، بعد ما عادت الى بغداد، الفضاء الذي شهد السرديات الشهرزادية في الماضي ... السرطان هو الوباء الخطير «انه التدخين. اما زالت تدخن يا كريم، تسألني وهي تشد رأسي الى جبهتها
 برفق. لا يا يسار، ردّ عليها بغضب مستعر ولكن بصوت مخذول يجعلها تتراجع قليلاً للوراء، نعم لقد تركت التدخين منذ ان اعلمني البابا الهندي بالمرض، اعني الطبيب الهندي الذي شخص مرضي اي انني منذ عشرة اشهر لم اضع في فمي سيكارة / ص13//
الشابة العائدة من المنفى ــ يسارــ، تعرّفت على كريم الحكواتي الذي ابتكر لها سبباً جوهرياً للإصابة بالمرض، وهذا يعني بأن العراقيين مرشحين للموت بسببه. انه الفزع والقلق والخوف والذعر وهذا يشير الى حشود من الضحايا المحتملة، لانّ العراقيين عاشوا زمناً مرعباً وتعرفوا على انواع من الظلم والقسوة. وتوافق مقترح كريم بالسبب مع افكار «يسار» التي تؤمن كنيتها
 لموقفها الفكري.
(ثمة الألم المعنوي، نعم الألم المادي يُعربد في صدري أحيانا حتى كأن في رئتي صرصارين يشققان بأرجلهما المنشارية جدران وانسجة الرئة، لكنها الاسئلة التي تنفجر في رأسي والتي هي اشد ألماً بكثير من الالم المادي الذي يمكننا القضاء عليه بالمسكنات / ص 34//
تسللت الاسئلة الانطولوجية، ذات الصلة المباشرة والقوية بالحياة، اسئلة باحثة عن تطمينات، واجوبة تمنح النفس طاقة الاحتمال وتكشف تكرارات الاسئلة، مستوى ونوع الالم والفزع (أهكذا هي نهاية العمر,) و ( لماذا آل بيّ الحال، هذا المآل؟) وتتشاكل الاسئلة مع حضور الميتافيزيقيا واللوذ بالمقدس المانح نوعاً من الهدوء (المرض عقاب سماوي) و (لماذا اعاقب في اخر المطاف بهذا الشكل المروع
 والمخيف؟).
مع كل هذا الزحام والقلق الروحي والنفسي، ظل كريم متجذراً بالحياة ويتعرّف على ما لم يره من قبل، لانه ادرك ما يتوفر عليه الجمال من طاقة (ارفع الراية البيضاء عالياً امام ضيفتي الجالسة امامي مضيئة كزهرة من زجاج) /ص17//
عاشت شخصية كريم تحولات عدة، ممثلة بذلك عن الاضطراب والفزع ويلوذ بالرمز ويعلن عبره عن الزمن / السفينة والارصفة هي السنوات التي عاشها ( اتراه يئس العذاب الذي اتخمت سنواته
 به ؟ // 
ذهب القاص اسعد اللامي نحو مرويات، غرست خلية الورم في صدره، فقص علينا احدى سرديات الدكتاتورية وقسوتها واختصر بذلك تفاصيل حياته الاجتماــ ثقافية والسياسية، وقال بإيجاز قصته السياسية وهي في الجيش، هذه المروية زرعت في جسده الوجع والالم. وكان للكنية التي منحها للفتاة التي عادت من المنفى، مرآة كاشفة عن قوة اليسار والانتماء اليه.
هذا المنتمي الحاضر والغريب، ظل يحمل نقصاناً بسبب فقدان قدمه، وتحطّم حلمه باختيار صفة كائن مكتمل «ناوليني قدمي الصناعية من فضلك لاكون جاهزاً للخروج اعتدت على ارتدائها وخلعها دون مساعدة ..... ذلك جزء من التدريب /جزء من الاعتياد على صديق، من الاضافة لتكملة
 المنقوص//
هذا نقص مرمّم، ولكن حركته قلقة، مرتبكة، لان الحرب اكلت قدمه، المفقود نقص هائل، يكبر في كل خطوة، ويكبر لحظة ان يراه شخص اخر، والشوارع مكتظة // ..... لكن هنا صرخت وانا ادق على صدري بعنف. هنا، في الداخل كيف يمكن اقناع اطفال الكارسينوفا المتوحشين بالكف عن اللعب الخشن وعدم قضم الايام القليلة المتبقية لي في الحياة ///
النقصان زاحف على حياته، وسيفضي نحو الموت الذي غرسه الخوف والاضطهاد والقمع.