د.قيس العزاوي
بتفهم روسي ومباركة أميركيَّة قامت القوات التركية بالتوغل العسكري في شمال شرقي سوريا لمهاجمة قوات الحزب الديمقراطي الكردي (وحدات حماية الشعب) التي وعدها الأميركيون بتدريب ما يقرب من 30 ألف مقاتل منها وتسليحهم لمواجهة عصابات داعش الإرهابيَّة وحماية تجربتهم.. بيد أنَّ تركيا أردوغان وجدت أنَّ هذا الاتفاق مهددٌ خطيرٌ لأمنها القومي فرفضته، وتمردت على الحليف الأميركي وقامت قبل أشهر بمهاجمة عفرين التي يديرها الأكراد والسيطرة عليها.
وهي اليوم بصدد السيطرة الكاملة على منطقة “تل أبيض” من دون أنْ يُحركَ الأميركيون ساكناً بل على العكس “بلعوها” وبدؤوا بسحب بعض قواتهم، ما أثار ليس قادة الأكراد فحسب بل قادة الحزب الجمهوري الأميركي أنفسهم.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتخلى الأميركيون فيها عن حلفائهم، فقد سبقتها مرات ومرات، ما يجعل مقولة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك “من يتغطى باللحاف الأميركي فهو عريان” مقولة صحيحة تماماً. فلن يرتعد ترامب من صرخات الأكراد والجمهوريين التي تتهمه بـ “الخيانة” فقد اتخذ قرار إعطاء الضوء الأخضر لأردوغان على إثر اتصال هاتفي بينهما وعلى ما يبدو فقد ندم، بعدما ثارت على قراراته الفردية أصوات الديمقراطيين والجمهوريين على حد سواء، لذلك قام بتهديد الاقتصاد التركي.
والاقتصاد التركي المتنامي والصاعد والذي نقل تركيا الى مصافي الدول العملاقة في العالم بات يقلق الغرب عامة والأميركيين خاصة، الأمر الذي جعل تركيا تتباهى بعظمتها وتثير غيرة الأوروبيين بعد أنْ رفضوا ضمها الى اتحادهم الأوروبي. لذلك بدأت الضغوط السياسيَّة على توجهات تركيا السياسيَّة الخاصة بتوطيد العلاقة مع العمق الإسلامي وتحولت الى ضغوط اقتصاديَّة وتهديدات.
وقصة الخلاف السياسي بين تركيا والحلفاء الغربيين تعودُ الى ما بعد الانقلاب العسكري الفاشل في تموز عام 2016 ومذاك بدأ الاقتصاد التركي يفقد كل يوم بفعل الضغوطات الغربية بعضاً من حيويته وكثيراً من سبل نموه. لقد أدى الانخفاض في احتياطيات النقد الأجنبي والانخفاض الآخر في مستوى الاستثمارات الأجنبية في تركيا الى تقلص الاقتصاد التركي الذي عاش طيلة السنوات الأربع السابقة في دوامة التقلبات المالية التي أفرزت بدورها عدم اليقين السياسي.. ومما زاد الطين بلة تزايد معدلات البطالة الى 15 في المئة وارتفاع معدل التضخم الى 17 في المئة.
ونتيجة لتدهور علاقة تركيا مع الإدارة الأميركية واستخدام الأخيرة الضغوط الاقتصادية فقدت الليرة نحو 30 % من قيمتها أمام الدولار العام الماضي.
لقد أسهمت حدة الخلافات التركية الأميركية في تسريع عجلة الضغوطات الاقتصادية والسياسية الأميركية على سلطة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.. وقد أدت هذه الضغوطات في السنتين الأخيرتين الى انتكاسته السياسية، والتي تمثلت في خسارته لبلدية اسطنبول من ناحية، وحدوث عددٍ من الانشقاقات التي عرفها حزب العدالة والتنمية من ناحية ثانية، والى تراخي قبضة أردوغان على الحزب وخروج بعض قادة حزبه وانضمامهم لمعارضته والتشهير بقراراته من ناحية ثالثة.. لقد ترافق ذلك مع تدهور مقلق في قيمة الليرة التركية.
والسؤال المطروح هو: ما الذي حدث وكيف السبيل لفهمه وهل بإمكان ترامب تدمير اقتصاد تركي قوامه قرابة تريليون دولار؟ ذلك ما نحاول الإجابة عليه:
أولاً: تراكم ما يكفي من الأسباب لكي تضطرب علاقة تركيا أردوغان مع جبهة الغرب وبخاصة مع أميركا وربما يكون على رأس هذه الأسباب تدهور علاقة تركيا بحليفتها التاريخيَّة إسرائيل بعد حادثة الاعتداء الإسرائيلي على أسطول السلام عام 2010 الذي نقل نشطاء السلام الى غزة من أجل كسر الحصار عليها وأغلبهم من الأتراك ومقتل 9 منهم.
ثانياً: أضيف الى التحالف التركي الأميركي وقوع الانقلاب العسكري على اردوغان في تموز 2016 والذي تعاطفت معه أميركا وعموم الغرب في وقت كان الغرب فيه يقف على الدوام مع السلطات المنتخبة وضد الانقلابات العسكرية، الأمر الذي دفع تركيا نحو تحالفات دولية جديدة.
ثالثاً: إنَّ الخشية الأميركية من فقدان تركيا الحليف التاريخي للغرب دفعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب للموافقة على التوغل العسكري التركي في شمال شرقي سوريا (تل أبيض)، وترافق ذلك مع بدء انسحاب جزئي للقوات الأميركية من شرق الفرات، جرى ذلك بمباركة روسية، إذ أعلن الكرملين بأنه يتفهم الإجراءات الهادفة لضمان أمن تركيا. ومن ناحيتهم ناشد بعض القادة الأكراد السوريين مجلس الأمن الدولي لتحمل مسؤولياته تجاه سكان المنطقة، مطلقين صرخاتهم عن “خيانة” أميركيَّة.
رابعاً: ولكل تنازل أميركي ثمنه، ففي إطار ممارسة واشنطن سياسة الابتزاز الاقتصادي للقرارات الأمنية والسياسية المستقلة عن ستراتيجيتها في المنطقة، قامت واشنطن سابقاً بمعاقبة تركيا اقتصادياً في السنوات الماضية، ويلوُّح اليوم الرئيس الأميركي ترامب بتدمير الاقتصاد التركي برمته في تغريدة أخيرة على “تويتر”، إذ يقول: “إذا فعلت تركيا أي شيء واعتبرته خارج الحدود، فسأقوم بتدمير اقتصادها بالكامل وطمسه”، ويضيف معترفاً: “لقد فعلت ذلك من قبل!. وتلك هي المرَّة الأولى التي يعترف فيها رئيس أميركي بممارسة الابتزاز والتدمير الاقتصادي لتحقيق أهداف
سياسيَّة.
خامساً: لقد مرَّت الأزمة الاقتصادية الاولى في تركيا بأقل الأضرار عام 2018 لوقوف حليف أردوغان أمير قطر الشيخ تميم آل ثاني معه مستثمراً 15 مليار دولار في تركيا، فضلاً عن تحويل البنك المركزي الصيني لمبلغ مليار دولار الى تركياً.
سادساً: التهديد الأميركي الجديد لتركيا جادٌّ وفعالٌ لكونه يلقى دعماً أوروبياً وذلك لأنَّ غالبية ديون الشركات التركية البالغة 220 مليار دولار هي لمؤسسات أوروبيَّة، وأنَّ دول الاتحاد الأوروبي هي المستثمر الأكبر في تركيا، إذ مثلت حصتها من صافي التدفقات الداخلة للاستثمار الأجنبي المباشر نسبة 61 بالمئة. وبناءً عليه لن يتمكن أردوغان من الإفلات من القبضة الاقتصاديَّة الغربيَّة مع رغبته العارمة بالبقاء في نادي الحلف الأطلسي ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. والاقتصاديون الأتراك يعترفون بأنَّ أوروبا وأميركا و”صندوق النقد الدولي” هم طوق نجاة الاقتصاد التركي وهم القادرون على انتشال البلاد إذا أدركتها الأزمة.