انتباهات اللغة في رواية { شبح نصفي }

ثقافة 2019/10/11
...

  ابراهيم سبتي
دلالة المعنى في الرواية ، هي تبصير لحدث يبدو مغلفاً بلغة تزيح الظل البارد الذي يلازم السرد . اعني تفكيك النص وفق منظور القراءة المتعددة التي تنتج فهماً واضحاً لا غبار عليه . وانجلاء المعنى هنا ، ازاحة اللامفهوم ورميه واستبداله بالضوء الذي سينير السرد مهما كان غائباً عن وعي القراءة وان تعددت . في رواية شبح نصفي للروائي محمد خضير سلطان، اجد تناولاً لحدث في نص تحيط به اللغة الفاحصة من جوانبه لإزالة غموض المعنى وانارته وجعله سنداً لكل الاحداث المتلاحقة في الرواية . 
اذن اللغة تحلل المفاهيم وتبعدها عن الظلال الباردة التي تجعل النص ذاوياً لاحياة فيه. عمد الروائي الى سبك احداثه باستطراد تراتبي ينم عن انتباهة قصوى خشية الانفلات والاطاحة بالبناء المعزز بقوة اللغة ذاتها وبقوة الحدث الذي كان منساباً كماء هادئ في مجرى طويل “ لم يكن الترقب والغفلة والتماهي ابعد من صخب نهاري عال ونصف شبح متبد “ ص
29 . 
ما يلفت في الرواية هو الشخصيات والامكنة والرموز. الشخصيات جميعها متحركة ومهمة رغم سطوة الاخ الاكبر زيدان ، الا ان الاخرين يتكلمون اكثر منه ويتصرفون بافعال  اكثر حضوراً في المشهد . الاخ الاكبر زيدان هو وريث الاب في الجاه والمشيخة الا انه يسلم دفاتر الاب السبعة التي يروي فيها يومياته “ المروية الثانية “  الى الابن “ اسعد ، ضمير المتكلم “ الذي يروي بنفسه هذه الحادثة وهو الراوي الذي تختاره عائلة آل فالح ليروي القصة . فتتداخل عملية الروي بينه وبين السارد الاخر او الراوي العليم الذي يقول كل شيء . الدفاتر السبعة هي تاريخ العائلة في المئة سنة الاخيرة من مئات السنين او ربما هي كل التاريخ المروي . فيتوهج الحدث حينما يخبرنا الراوي بان العائلة قد فقدت ملكها فصار ملكاً مضاعاً “ المروية الاولى التي استندت على حكايات الجدة الكبيرة نيسانة في تدوينها  وراحت تبحث عن ملك آخر كالملك المشاع الذي كان نقطة ندم اصابت كل الشخصيات التي اهدرت هيباتها بضياع ملكها الثمين وراحت تتغنى بالتاريخ الذي يذكرهم بالامجاد . عاش آل فالح مئات السنين وهم يبحثون عن ملكهم المضاع بين ارضي السواد والصحراء وهي دلالة الابقاء على الحدث مروياً دون ضياع والتذكير الدائم بفقدان الملك الذي كان حدثاً بارزاً في السرد وتمحور عليه كثير من المشاهد . في الرواية ثمة اماطة للثام الماضي بكل يومياته وان كان قد جاء بمرموزات واضحة متمثلة بثوابت يراها الناس كل يوم مثل نصب جواد سليم وتمثال الجنرال مود وشخصية عبد الفتاح ابراهيم  عالم الاجتماع العراقي في كتابه “ على طريق الهند “ ويعتبر المصدر الثالث في الروي الذي استفاد منه الراوي للبرهنة على نصية الاحداث كما يقول الكاتب .  فكانت متراصة مع الحدث الذي عني بمعانيها وخباياها التي شكلت نقطة انطلاق اخرى للروي :
“ في اتجاه آخر تبين ايضاً ، ان منحوتة نائحة جواد سليم الرابعة الملتفة بالسواد الفاحم في جداريته المعروفة ، تشبه الى حد كبير اختي حسنية المرعوبة ووجهها البرونزي المفزوع ، وحسنية المرعوبة تشبه الى حد كبير ايضاً الجدة نيسانة الاكثر رعباً “ ص 11
ويوحي الوصف بالفجاعة حين يشبه الاخت حسنية بامراة جواد سليم الملتفة بالسواد في جداريته الشهيرة وهو ايحاء بالخراب والبكاء والحزن الطويل الذي آلت اليه عائلة آل فالح بين ارتحال ونزوح وعيونها على ارضها.
اشقاء عائلة آل فالح لم يستطيعوا تغيير الاقدار التي حلت بالعائلة ولم يستطيعوا ان يثبتوا انهم كانوا شجعاناً حد التضحية من اجل حياتهم الاخرى التي ارتكنوا اليها بعد ضياع ملكهم . فما كان من زيدان الا ان انحاز الى المصير الرخو الذين آلوا اليه وبالتالي شكلت قضية آل فالح تاريخاً حاضراً في عقولهم ودفاتر الاب السبعة . فكانت ارتحالات العائلة هي ديدنها حسب مايرويه اسعد آل فالح وهو يأخذ “ عشبة من كتاب عبد الفتاح ابراهيم الذي يجد فيها ان  “ ثيمة النزوح والرحيل والقوافل ، هي احد التجليات الخفية للعائلة في كل البلاد فمازالت تتمرأى في جميع مظاهرها حتى الوقت الحاضر ففي اية لحظة تشكل القافلة السائرة كل شيء ، وحكاياتها هي الاصل “ ص 65 وما كان من الناصر وهو شخصية قد يراد بها المنقذ من المصير ، الا  نسخة من شخصية الاخ الاكبر زيدان الذي لم يقدر على فعل شيء للعائلة “ الناصر الكبير هو الاخر صاحب مشروع حراسة تركات الارض واستثمارها داخل العائلة الكبيرة ، والحارس لهذا الحلم القديم “ ص114 . فكان تصادم الرغبات هائجاً بينهم واقاويل الشكوى والتمرد الخفي تكتسح عقولهم التي لم تتخلص من عقد الماضي، فيقتل الناصر في مبنى الاذاعة وعلى كرسي عازف الجلو ، فيموت الزعيم المنقذ من قبل قتلة لم يمهلوه ان يكمل حديثه مدافعاً عن نفسه . سجلت الرواية الصراع الازلي في الاستحواذ من خلال مؤسسة السلطة الدموية وامتهان مصائر الناس وهو خط الانطلاق المهم في الاحداث . فالبحث عن الملك المضاع صار حلماً وامنية بعيدة المنال، لان النزوع الى الاستحواذ هو صفة لا يمكن لاي سلطوي ان يتخلى عنها . ان رواية شبح نصفي للروائي محمد خضير سلطان تمثل برأيي نقلة في كتابة الرواية التي قال عنها الكاتب في مقدمته انها رواية افكار وهو يريد منا ان نتحول من قراء لرواية تقليدية الى قراء حذقين اذكياء يبصرون ما يقرؤون من افكار الشخصيات ومن افكار ورؤى الكاتب .