نعم ، انشددت بسحر القص والحكي وشعرت بالمتعة وأنا أقلب حلم البطل في رواية « قصر الثعلب « للمبدع ابراهيم سبتي، وهي تلج عالما، وتخرج منه. هذا العالم عبارة عن حلم، شيده ابراهيم بأناة وحنكة، ليمنحك شعورا بلذة الخوض فيه، لذة التمتع بمتونه المرسومة بعناية ودقة العارف، فالراوي في الحلم يخبرنا انه انهى للتو قراءة رواية، ومن تمثلات أسقاطها على شخصيته انها دفعته للخوض في لعبة الحلم» فاستقر عزمي المندفع على بدء رحلة العمر في خيالي
المتوهج « ص 7 .
نحن إذا أمام رواية داخل رواية، واراني، شعرت بمتعة مراقبة هذه اللعبة التي خاضها ابراهيم سبتي ببراعة لا يجيدها الا سارد ماهر محنك يعرف جيدا المسارات التي يسميها النقد المعاصر “ميتا سرد” . بطل الرواية الاولى التي قرأها صاحب الحلم اسمه شاهين ذهب الى الغرب غازيا بعنفوان رجولته ليحاول أن يرد له الصاع بثلاثة مادام هذا الغرب ظل يؤرقه على ما فعلوه بنا طيلة عقود وصار وجهة وأماني لا تنتهي ولا تغيث الملهوف الراكض نحو حافة الحلم (كما جاء في
الاستهلال) .
ما هو حلم ؟ يدخلنا ابراهيم سبتي ببراعة ليكشف عن سفرة حلمية لبطلنا خارج حدود البلاد استجابة لدعوة يوجهها له الممثل العالمي الشهير كلينت ايستوود ، وسبب الدعوة أن بطلنا الجنوبي الطيب هو أحد أهم معجبي الممثل العالمي الذي يحتفظ بأرشيف له عن كل أفلامه وصوره وعاداته في المأكل والمشرب والنوم ومخالطة النساء ، وانه كان يراسله منذ عقدين من الزمن والممثل يجيبه عن كل رسائله . يصعد البطل الذي اسمه محمد الناصري الى الطائرة الخاصة المرسلة من قبل الممثل لتأخذه الى اميركا ، ومن خلال وصف جميل ودقيق لباطن الطائرة المطلية بالذهب الخالص ووصوله الى هناك ، ومن ثم استقبال الممثل له والذهاب معه بسيارة فخمة مع ست سيارات حماية له الى قصره الكبير حيث تطل لوحة كبيرة لثعلب في صالته الفارهة ، نجد أن السارد يعكف على بث إشارات خفية تعبّر عن امتعاض الممثل العالمي من شخصية هذا الجنوبي الذي سمح له بالمجيء بطائرته الخاصة والنوم في احد غرف قصره الثعلبي براحة واسترخاء لا يصل الى رفاهيتها حتى في الحلم. ويتابع بدقة خفية ماكرة لماذا الممثل كان ممتعضا بعد اللقاء الخاطف في السيارة معه ، واللقاء الآخر الذي تم عند وجبة العشاء . ما جعل القلق والخوف يستولي على روحه، فيسأله الممثل ( هل أنت المعجب الذي راسلني الف مرة طيلة عقدين من الزمن ؟) ويظهر على وجه الممثل الاستياء ثم يقول له غاضبا ( كذاب ، انك كاذب محترف لست هو، حدسي لا يخطأ ) ثم يتم كشف الأسرار من قبل أحد مخدومي الممثل العالمي وهو ادريس سوداني الجنسية ، فيخبره أن الممثل اكتشف إنه ليس المعجب الحقيقي الذي انتظره كما كان ينتظر معجباً آخر من مصر اسمه رضوان . ويعترف محمد الناصري للموظف العربي بان أخيه هو المعجب الحقيقي ، لكنه مات في انفجار مفخخة ، وتقمص دوره رغبة في الخلاص من شرور الحياة في العراق. ويساعده ادريس في الهرب من قصر الثعلب بنصحه ركوب سيارة القمامة التي سوف ترميه خارج المدينة ، ويعطيه مبلغا من المال ويقترح عليه أن يصعد أحدى السفن الراسية في الميناء ليعود الى بلاده . وعبر تفاصيل مشوقة يصل الى الميناء ويصعد سفينة تنقل الحاويات فيدخل أحداها ويكتشف فيها أسلحة ويعرف أنواع تلك الاسلحة داخل الحاوية، ذلك لآنه محارب قديم اشترك بحربين ضروسين ولم يمت فيهما . وبعد حصاره في الحاوية يكتشف البطل أن شخصا آخر تم العثور عليه هارب مثله في السفينة يدميه رجال أمن السفينة ويتركونه مدمى فيساعده ، وظهر أنه كان يتقمص دور المعجب الثاني الذي ينتظره الممثل العالمي ويهرب مثله بالطريقة نفسها التي هرب بها . وبطريقته البارعة، يكشف السارد عن خلفيات الحياة التي عاشها البطل وهو مدرس في المعهد التقني للبنات في مدينته الجنوبية وهو المثقف الذي ينتظر الفرص كي ينجو من رتابة الحياة. ويخوض سبتي في التداعي لرسم مشاهد بالغ التأثير لإدانة الحرب التي خاضها العراق ضد امريكا ، وكيف تمكن البطل من النجاة في طريق الموت بين الجهراء والبصرة في اثناء أحد الحروب . وما فعله نهازو الفرص من سرقة أموال الناس. ورسم بتفاصيل مغرقة بالجمال مشاهد بالغة التأثير بعد سقوط الصنم كيف اصبحت الحياة في بغداد التي انغمرت بالظلام الدامس. الظلام بدلالته الواسعة. إن التنقل بين الحاوية المحشور فيها البطل محمد الناصري مع رضوان المصري المعجب الثاني وبين حياة الدمار التي يعيش في ضنكها العراقيون بعد احتلال امريكا للبلاد، لهي عندي خلاصة جوهر وبؤرة الرواية، ومن هنا وجدتها وثيقة ادبية عالية المستوى في ادانة كل الخراب الذي عشناه بعد الاحتلال.