أشياءٌ غير ضروريَّة

ثقافة 2019/10/12
...

تاتيانا تولستايا
 
ترجمة: جودت جالي
هذا الدب التدي* كان في يوم ما ذا عينين كهرمانيتين صنعتا من زجاج خاص، كل واحدة لها بؤبؤ وقزحية. الدب نفسه كان رماديا وصلبا بفرو سلكي الملمس. همت به زمنا ثم دارت السنين. اشتريت شقتي الخاصة في سان بطرسبورج وكنت أتجول في مسكن الأهل أجمع ثيابي وكتبي فيما التمس من أمي مختلف الحلي الصغيرة زهيدة القيمة والأقمشة القديمة المخزونة في حقائب أقدم 
منها. 
لا أحد بحاجة الى هذه الأشياء- لا أمي، ولا أنا بالتأكيد- ولكني أحب الأشياء غير الضرورية، فقد اختفى منها كل المعنى العملي والتجاري والتأثيري، تبخرت منها كل منفعة، تاركة فقط أرواحها العارية، أنفسها الحقيقية، كل ما كان حتى الآن مختبئا بهرج ومرج الأيام 
العابرة.
فيما كنت أنقب في الخزانة الصغيرة تحت الدرج، محاطة بخيش كالح وعصي تزحلق عتيقة لم يفلح أي منا في أن يعمد على رميها بعيدا، وأنا أتلمس طريقي في عتمة الحيز بين الجدار وخزانة المتروكات، وجدت دبا، أو بتعبير أكثر دقة، وجدت بقاياه: إطار فروي خشبي بكف وحيد أمامي، وزر بلاستيكي لعين واحدة وقطع من خيط أسود متدل للعين الأخرى. تلقفته وحملته بإحكام، مطبقة على جذعه الأهلب المترب، ومغمضة عيني لأحبس جدول الدموع المفاجئ عن الجريان عليه.
وقفت هناك لا غير، في شبه الظلمة المقيدة المطبقة، أصغي الى دقات قلبي المهتاجة. أم كانت تلك دقات قلب الدب.. من يمكنه أن يعرف؟
كيف كان الأمر؟ شيء مثل هذا ربما: فلنقل أن لديك أطفالا صغارا، وكبروا وأصبحوا في الأربعين من العمر، واعتدت على هذه الحقيقة وتتعايشين معها، وبعدها فتشت في الخزانة وإذا به أمامك، طفلك الأول، كما كان، عمره ثمانية عشر شهرا، غير قادر على الكلام بعد، رائحته لطيفة مثل طحين الشوفان وصلصة التفاح، وجهه منتفخ من البكاء، فُقِد ولكن عُثِر عليه وهو بانتظارك عبر كل هذه العقود خلف خزانة متروكات، غير قادر على النداء عليك، والآن اجتمعتما أخيرا.
أخذته معي الى شقتي. كل شيء هناك كان جديدا بشكل مهين، يعني.. غير مألوف وغريب. المكان مليء بمواد مشتراة من محال الأشياء المستعملة والعتيقة، مواد كانت سابقا تعود الى أناس آخرين ولم تتكيف الى الآن على مسكنها الجديد. فعلت ما بوسعي للتخفيف من غرابة هذه الخزانات الأجنبية ذات الأدراج والخوانات الى جوار حلي أمي الزهيدة وأقمشتها. وضعت الدب على سريري غير عارفة ما أفعل به أيضا.
نمت تلك الليلة وذراعي حوله، وقد رد ضمتي بوهن بكفه المتوحدة.
كانت ليلة صيفية بيضاء، نوعا ما شفافة مع شفق معتم، لا نوم، بل توق اليه. فاحت من الدب رائحة التراب، التراب وكبر السن، العجز، عقود، ألفية. استطعت، وأنا أفتح عيني تحت ماء عتمة منتصف هذا الليل المرمري، أن أرى الخيط الأسود معلقا من محجر عين صغيرة بائس. مررت بيدي على رأسه الخشبي. كان مغطى بالندوب. لمست أذنه. فكرت...كلا. 
هذا لا يمكن أن يستمر. توجد قصة قصيرة بقلم وليم فوكنر عنوانها (وردة لأميلي) تتحدث عن امرأة تضع السم لحبيبها لتمنعه من هجرها، وتحبس فيما بعد نفسها في بيتها وترفض أن تتركه للسنوات الأربعين التالية حتى وفاتها. 
بعد جنازتها تم العثور على جثة متعفنة في قميص نوم بالٍ منطرحة على جنبها في فراش كما لو كانت تحتضن شخصا ما، والى جوارها، على وسادة بان عليها الانبعاج الذي يصنعه الرأس، توجد جديلة طويلة وحيدة من الشعر الرمادي حديدي اللون.
في الصباح غادرت موسكو، وعندما عدت بعد شهر، كان الدب قد ذهب. لم يكن على الفراش، أو تحته. لم يكن في أي من الخزانات، أو في حيز الدلوف*. لم يكن في أي مكان يمكن العثور عليه فيه، لا يوجد في أي مكان.    
 
 المصدر: August 9, 2017
 The New Yorker, August 9, 2017. Unnecessary Things by Tatyana Tolstaya.
• ولدت تاتيانا تولستايا (1951) لعائلة ترجع  الى عائلة تولستوي من جهة الاب وعائلة تورجنيف من جهة الأم. كاتبة روايات وقصص قصيرة، ومقدمة برامج تلفزيونية، وكاتبة مقالات لاذعة عن الحياة الروسية المعاصرة.
* الدب التدي لعبة محشوة بمواد لينة. 
* حيز الدلوف هو الفراغ تحت البيت أو الدرج يمكن لعمال التصليح الدخول فيه.