تجريف العشوائيات ليس حلّاً
آراء
2019/10/12
+A
-A
د. خليل فضل عثمان*
منذ أن أطلقت السلطات العراقية جرافاتها مؤخراً لإزالة بعض الأبنية غير الشرعيّة في عدة مناطق من العراق ووسائل الإعلام العراقية، فضلاً عن وسائل التواصل الاجتماعي، تضج بجدل محموم، بشأن صوابيّة هذه الخطوة وتوقيتها وموقعها في سُلّم أولويات السياسات الداخلية والاجتماعية للحكومة في بلد لا يزال يئن تحت وطأة كم هائل من المشاكل الناجمة ليس عن العقوبات الاقتصادية الدولية والحروب المتتالية وتحديات الإرهاب وإعادة الإعمار فحسب، بل وعن سوء الإدارة والفساد وأعطاب نظام المحاصصة.
ولئن كان في سوء الإدارة والفساد ونظام المحاصصة أوجه شبه صارخة بين العراق ولبنان، فإنّ حبل المقارنات لا يقف عندها. فمشكلة طفرة البناء غير الشرعي، وما صاحبها من جدل حول التعاطي معها، تشكل وجهاً آخر من أوجه الشبه بين البلدين من حيث المشاكل والأزمات الاجتماعية التي يعانيان منها وتعقيدات التعامل معها. وهذا ما قد يفتح الباب أمام استفادة العراق من هذه المشكلة من الدروس والعبر المستقاة من بعض التجارب اللبنانيّة.
لقد اسهمت مشكلة البناء غير الشرعي والعشوائي بإحداث تحولات عميقة الغور في مسقط رأسي برج البراجنة، إحدى ضواحي بيروت، تركت آثارها على طبيعة الحياة ومستواها وما يشوبها من فوضى واستهتار بالقوانين وحقوق الآخرين وما ينتج عن ذلك من ارتفاع منسوب القلق والتوتر لدى سكانها. ربما تكون نصف الأبنية في برج البراجنة حالياً قد بُنِيَت بناءً غير شرعي، وعلى الأملاك العامة والخاصة. ولم يكن سكان هذه الأبنية غير الشرعية يدفعون الضرائب البلدية حتى عام 2015 عندما بدأت بلدية برج البراجنة بإجراء مسح لإحصاء عدد المباني في الأحياء العشوائية وهو مسح لم ينتهِ بعد لصعوبة إجرائه في مثل هذه المناطق المكتظة. وشرعت البلدية بإرسال إشعارات لساكني هذه الأبنية العشوائية بالضرائب البلدية المترتبة عليهم. ولكن نسبة التسديد ضئيلة جداً.
مشكلة البناء غير الشرعي وعلى أراضي الغير مشكلة قديمة في ضواحي بيروت. وتعود بداياتها في برج البراجنة إلى الخمسينيات من القرن الماضي وتضافرت عدة عوامل أسهمت في ظهورها لعل أبرزها هو تعاظم الهجرة الداخلية من الريف إلى العاصمة، وتهجير سكان بعض القرى الجنوبية بسبب سلسلة من الاعتداءات الإسرائيلية بذريعة ضرب قواعد الفدائيين الفلسطينيين، وضعف وتلكؤ، لا بل فساد، أجهزة الدولة في تطبيق القانون، وفساد واستهتار بعض المتنفذين من سكان المنطقة الأصليين بالقانون وبحقوق الملكية، إذ تواطؤوا مع بعض الأشخاص وسمحوا لهم بوضع أيديهم على أراضٍ وبناء بيوت لهم عليها مقابل مبالغ مالية. وقد تفاقمت المشكلة كثيراً بعد الحرب الأهلية التي اندلعت عام 1975. وفي حمأة الجدل بشأن طريقة التعامل مع هذه المشكلة عندما كانت في طور التفاقم في أوائل السبعينيات، جادل بعض المعترضين على فكرة إزالة المخالفات، بضرورة التوصل إلى حلول أخرى محتجين بأنّ هؤلاء المتجاوزين محرومون ألجأهم الحرمان والفاقة إلى العيش في أحياء ومساكن عشوائيّة. ولم تحل مشكلة حرمانهم بمرور الزمن ولكن العشوائيات واصلت انتشارها، الأمر الذي اسهم في تحول برج البراجنة كلها من ضاحية وادعة تزينها الحدائق والبساتين والحقول الجميلة إلى حي واسع من أحياء البؤس، الحياة فيه لا تطاق لما تضج به من فوضى واعتداءات على المجال العام من شوارع وأرصفة وساحات عامة. لا يمكن زائر برج البراجنة في هذه الأيام حتى أن يمشي بهدوء وأمان في شوارع المنطقة المكتظة والفوضوية بشكل لا يقبله لا عقل ولا منطق ولا ضمير.
وبعد انتشار التديّن في لبنان في الثمانينيات عمد البعض إلى محاولة استغلال الدين والاختباء خلف راياته في اعتداءاته على الأراضي العامة والخاصة. فيعمد البعض مثلاً إلى بناء مسجد أو مصلى أو ما شابه ذلك من منشآت في الأحياء العشوائية التي بنوا بيوتهم فيها. لإضفاء شرعية على الحي العشوائي الذي بُنِي في المنطقة المحيطة به. وبالفعل، فلقد أغلق المسجد بعد سنوات لكونه شُيِّد على أرض مغصوبة ومن ثمّ لا تجوز الصلاة فيه.
ودخل التهافت على البناء غير الشرعي على الأراضي العامة والخاصة في برج البراجنة في دهاليز التنافس السياسي أحياناً وعصفت به عدوى الطائفية اللبنانية ولوثته. فهناك حي في منطقة الرمل العالي متاخم لطريق المطار القديم يُعرَف باسم “حي حلوم”، على اسم عدد من الأسر من آل حلوم من بلدة العين في البقاع. وقد بنى سكان الحي فيه أيضاً مسجداً، وتفشت المخالفات في طفرة من التهافت المحموم على تشييد أبنية غير مرخصة معظمها على أملاك الغير أو التوسّع في تلك القائمة والمشيدة أصلاً. وعندما حاولت السلطات الأمنية التدخل لوقف المخالفات في الحي وبعض الأحياء المجاورة كاد الأمر يتحول إلى فتنة وسقط ضحية الصدامات مع القوى الأمنية طفلان.
لا أصدر فيما أكتبه هنا من موقع إصدار الأحكام على سياسة تتوخى التعاطي مع مشكلة اجتماعية عراقية، وإنما من موقع المراقب الناقل لتجربة أخرى في سياق التعاطي مع مشكلة مشابهة. كما إنّني لا أصدر في هذه السطور عن تعالٍ طبقي أو حقد على الفقراء أو المحرومين أو المسحوقين أو المستضعفين أو المضطَهَدين أو المُهَمَّشين أو المظلومين ولا عن خيانة طبقيّة أو ردة نخبويّة أو تبلّد إحساس إزاء قضاياهم وهمومهم وعذاباتهم. فأنا أعتز بانتمائي إلى أسرة فقيرة الحال تربى والدي وإخوته في كنف جدتي التي طلقها جدي وكانت تعمل في بيوت الميسورين لتؤمّن لأطفالها لقمة العيش الكريم المغموسة بالكدح. ولقد أفنيت عمري في التعاطف مع قضايا الفقراء والمسحوقين والمظلومين والاصطفاف معهم في أربع رياح المعمورة. وأنا كنت ضد الهدم والإزالة والتجريف كسياسة وحيدة لا تندرج ضمن سياسة اجتماعية أشمل تلحظ مسؤولية الدولة في تأمين مسكن لائق لساكني العشوائيات. وحين حاولت السلطة هدم البيوت العشوائية في حي الرمل العالي في بداية الثمانينيات خرجتُ مع المتظاهرين، وشاركتُ معهم في قطع الشوارع وحرق الإطارات المطاطيّة، وتعرّضنا لإطلاق الرصاص الحي من قبل الجيش، واعتقل عدد من أصدقائي وتعرضوا للضرب.
الواقعيّة تحتم اجتراح حلول لا تؤدي إلى حل مشكلة على حساب خلق مشاكل اجتماعية أكبر. فالإزالة والهدم والتجريف سياسة يتيمة قد تكون لها نتائج عكسية أكثر خطراً على الأمن المجتمعي. ومن بين الحلول التي يمكن اعتمادها ما يتعلق بسن قوانين أو تشريعات تتيح التوصل إلى تسويات مع المعتدين على الأملاك العامة بحيث يسددون بالتقسيط قيمة الأراضي التي شيّدوا مساكنهم عليها في حال لم تكن تلك الأراضي قد خصصت لمشاريع النفع العام، أو بناء مساكن حكومية ينتقل إليها سكان العشوائيات ويسددون ثمنها مع تسهيلات وتخفيضات في الدفع تأخذ بنظر الاعتبار وضع السكان المادي والمعيشي، بينما تُسوى مخالفات البناء من قبل أصحاب الأراضي الخاصة على أراضيهم على أساس دفعهم غرامات مقابل منحهم تراخيص بناء، في حين يمكن أن تكون الإزالة خياراً من خيارات التعامل مع المتجاوزين على أملاك الغير الخاصة.
* أستاذ مساعد في العلاقات الدولية في الجامعة الأميركية / دهوك