كشفت التظاهرات الشعبية الأخيرة عن ثقافة جديدة تعدت حدود النمطية التي اعتادت عليها معظم التظاهرات السابقة بصفتها جاءت معبرة عن جذور حاجات الإنسان الطبيعية في عيشه السليم والكريم، بعد تجربة مريرة للنظام السياسي على مدى ستة عشر عاما، انصرف فيها هذا النظام الى جانب ما تعرّض له من أزمات معقدة الى سعي كثير من مسؤوليه ورموزه الى المكاسب الشخصية والثراء الواسع الذي لم يعد يغطى بغربال،
حتى تبلور وعي اجتماعي لدى الأجيال الجديدة بضرورة التوقف عند مطالبها في حق العمل والصحة والسكن والتعليم الجيد وغيرها، التي باتت في نظر الجيل الجديد مطالب أساسية تتعدى المطالب الأيديولوجية والسياسية التي لم يعد الجيل الجديد الثائر ينظر إليها على أنها أساسية بقدر ما يريد تحقيقه من تنمية ذاتية، لاسيما ان العمر يمر بسرعة في حياة قصيرة، فعلى سبيل المثال نجد في مجال العمل، فالخريج الشاب الذي تخرج قبل عشر سنوات أو سبع سنوات قد تعدى عمره الثلاثين عاماً ولا يزال بلا عمل ولم يجنِ ثمار تعبه أو لم يؤدِ واجبه المهني في مجال اختصاصه، يجد نفسه في حالة اغتراب وتهميش وقهر
واضح.
كما أن وجود هذا الشاب بلا عمل أو انه انخرط في أعمال لا تتفق ومؤهلاته العلمية كعمله سائق تكسي أو عامل بناء أو العمل في المطاعم أو المقاهي وغيرها أو انه أصلا بلا عمل، جعله أيضا يشعر بالحيف والغضب على دولة أو حكومة ترفع شعارات حقوق الإنسان، ويتفاقم هذا الشعور مع تزايد متطلبات الحياة في بلد يعد من بين أغلى دول العالم من حيث المعيشة ومتطلبات الحياة من سكن ونقل وصحة وتعليم وغيرها، ما بلور لديه وعيا اجتماعيا بواقعه هذا تجاوز كل المحددات الأيديولوجية والمؤامرات والأهداف السياسية الى نقطة مركزية هي تحقيق كرامته الإنسانية وضمان مستقبله.
إنّ هذا أو جزءا منه يضعنا أمام مسألة أساسية طالما أكدنا عليها ألا وهي ضرورة بناء الدولة العادلة التي يتساوى فيها المواطنون في حق العمل والتعبير وفرص الحياة المختلفة، وعلى وفق ما قرره الدستور.
إنّ هذه التظاهرات الشعبية بمثابة جرس إنذار للقائمين على الأمر بضرورة مراجعة كل السياسات السابقة والذهاب الى مواد الدستور الخاصة بحقوق المواطنين في العيش الكريم وترجمتها الى واقع أو سياق عمل، فالمواطن لا يعذر الدولة التي تطرح في دستورها مبادئ وقيما وحقوقا لصيانة كرامة الإنسان وتحقيق المواطنة الكاملة، ويجد المواطن في الواقع أمام تحقيق الحد الأدنى من تلك البنود.
إنّ بناء الدولة العادلة هي المخرج الأساسي لاستقرار النظام السياسي والاجتماعي في البلد، وهذا لا يأتي من خلال الوعود والخطب الرنانة والتغني بالأماني إلا بوجود إرادة سياسية صلبة تضع أسس التنمية البشرية وتباشر بتنفيذها، فقد طال انتظار المجتمع لها دون جدوى حتى وصل الحال الى مرحلة اليأس، ولاسيما مع تنامي وعي الأجيال الجديدة بحقوقهم المشروعة واصطدامهم بواقع صعب لا يلبي حاجاتهم المختلفة، لاسيما أن ذلك ينمو وسط تنامي مشكلات أسرهم بخاصة في أوساط الطبقة العريضة من أبناء شعبنا من ذوي الدخل المحدود.
لا مفر أبدا من ضرورة إعادة الحسابات والتفكير جديا إذا أراد القائمون على الأمر من قوى سياسية ورئاسات ثلاث وغيرها من استمرار النظام السياسي الحالي، وترسيخ كيانه، وهذا لا يأتي إلا بوجود آليات ووسائل رصينة لإخراج البلاد من أزماتها والخروج من دائرة الاقتصاد الريعي الى الاقتصاد المنتج الذي يقوم على تنمية الزراعة والصناعة وفتح أبواب الاستثمار وإلغاء الحلقات البيروقراطية الزائدة التي تعترض طريقة.
إنّ الإنسان يريد من الدولة اليوم قانون التأمين الصحي وحق العمل، فواقع البلاد الصحي على سبيل المثال، وصل الى مرحلة يحسد عليها من فساد وتردي الخدمات الصحية، وقلة الأدوية في المستشفيات الحكومية وغلاء العلاج والدواء في القطاع الخاص الذي بات يزعج المواطن ويثقل كاهله حتى أن كثيرا من المرضى يحجم عن مراجعة الأطباء في العيادات الخاصة أو شراء الأدوية من الصيدليات التي أصبحت سوقا تجارية أكثر منها خدمات إنسانية، ويأتي هذا مع تراجع قناعة المواطن بجدوى خدمات المستشفيات الحكومية.
إن الواقع الصحي بحاجة الى نهضة حقيقية ولاسيما في إنشاء مستشفيات عملاقة بتخصصات دقيقة للأمراض المستعصية الآخذة بالازدياد ودعمها حكوميا ومؤسساتيا على وفق قانون التأمين الصحي وبالمجان. وهذا لا ينفصل عن المطالبة بالارتقاء بالتعليم والحد من التعليم الأهلي الذي بات سوقا رائجة للثراء، إننا أمام إشكاليات معقدة، ولكن إذا ما أراد صانع القرار من تذليلها فإنّه
يستطيع.
إن علاج أزمات المواطن تبدأ في تحسين حالته المعيشية وهذا ينبغي أن يبدأ بإجراءات عملية ملامسة لحياة الإنسان ونجد أن أهم إجراء اقتصادي يمكن أن يؤثر في انخفاض معظم الأسعار في البلاد هو خفض أجور الطاقة من البنزين والغاز والنفط الأبيض وغيرها الى سعر مناسب فإنّ مردود ذلك سينعكس مباشرة على مجمل الأسعار انخفاضا من أجور نقل وأسعار سلع وعلاج وغيرها، بما يجعل الدخل الذي يحصل المواطن عليه يفيض عن الحاجة، ويبدأ بتنمية ذاتية على اقل
تقدير.
إن صاحب القرار مطالب اليوم باتخاذ مثل هذه الخطوة مع وضع كل الاحتياطات اللازمة لنجاح نتائجها لضمان إخراج المواطن من أزماته، فضلا عن ذلك من وضع آليات عمل مدروسة، بعد فتح الساحة العراقية أمام الاستثمار المفيد، لتشغيل الأيدي العاملة العراقية فيها، وبدون ذلك وإجراءات أخرى ستجدد التظاهرات بعد حين، ولا نعرف نتائجها، وعندئذ لا يمكن الكلام عن أي مبررات لقيامها سوى إخفاق حقيقي في تلبية حاجات الإنسان
الأساسية.