د. علي داود العطار
▪ في حديث التفاعل النفسي والإدراكي مع البيئة المحيطة، فإنَّ ثنائيَّة الألفة والاغتراب لها الحضور المهم والرئيس لتبيان فاعلية قوى الإنتاج من خلال تكوين الاندفاع والوازع الداخلي، أو تشكيل التراجع والإحباط.
▪ تعرّف الألفة على أنها الأُنس والعِشرة والاعتياد على البيئة المحيطة، وهي القدرة على تقليل الفوارق المدركة في اللاوعي بين الفرد والآخر، كما أنَّ من أهم مسببات الألفة هي وجود المشتركات فتتولــد الألفــة فــي النفس عندما يحدث التطابق بين الحدث المكاني والصور الذهنيَّة المفضلة. ومن حيث البعد الإدراكي فالإنسان يحمل خصائص إدراكية ويتســــم المكان بخصائص تركيبيَّة فعنـد ترجمـة الثانيـة للأولى نحصل علـى تطـابق بـين الصـور الذهنيـَّة المخزونـة والحـدث المكـاني ممـا يولد الإحساس بالألفة.
▪ كما يستخدم مفهوم الألفة في مختلف العلوم، ففي هندسة العمارة لتبيان انسجام مُنشأ مع ما حوله من مؤثرات بصريَّة وخصائص إدراكيَّة ومكانيَّة وتزداد الألفة بقدر هذا التناغم والانسجام. وفي الكيمياء بين العناصر التي يمكنها التجانس والتلاحم لتشكل تركيباً كيميائياً جديداً، وفي المجتمع فهو الانجذاب لمن يشبهنا واهتماماته قريبة من اهتماماتنا لتشكيل فريق برؤية واحدة يمكنها تكوين تحرك باتجاه هدف مشترك. كما يستخدم مفهوم الألفة في الأطر المختلفة الأخرى لتبيان مدى التلاؤم والتجانس والتكامل بين العنصر والتشكيل المحيط به.
▪ تكوين الألفة معتمدة على القيم الرمزيَّة الموحدة وبفعل البيئة المعنويَّة أو المكانيَّة الأليفة وبمستوياتها المختلفة، بدءاً من التفاعل بمستوياته ثم التفهم وانتهاءً بالاندماج. وهو لتكوين انتماء العنصر للفريق والتكامل في ما بينها.
▪ ويعرف الاغتراب أنه يأتي من الغربة وعدم التجانس والتلاؤم مع المحيط. يشعر الفرد بالاغتراب عندما تسيطر عليه وعلى مستقبله علاقات القوة والسيطرة، بحيث إنه لا يستطيع التأثير أو تغيير أشكال السيطرة. كما يعرّف الاغتراب كإحساس عجز في شبكة علاقات بين الفرد والمؤسسة التي يتبع لها أو التي يعمل فيها. وللاغتراب درجات مختلفة، بينها:
انعزال: هروب جزئي من الجوانب التي لا يستطيع الفرد التكيّف معها أو الانتماء اليها.
انسحاب: هروبٌ كاملٌ وعدم انتماء كلّي لواقع المجتمع وقيمه
الثورة: تمردٌ على الواقع بهدف تغييره.
▪ كما يستخدم مفهوم الاغتراب في المجالات المتعددة. فيستخدم في هندسة العمارة عند عدم التجانس بين منُشأ وباقي المنشآت حولها أو البيئة المحيطة به، ما يشكل نوعاً من عدم الانسجام والتلاؤم البصري، ما يؤدي الى صورة ذهنية مشوهة ومشوشة لهذه المجاورة.
▪ أما الاغتراب الاجتماعي فإنَّه عجز الفرد في التواصل اجتماعياً مع العادات والتقاليد السائدة في المحيط وفقدان القدرة على إدراك أحداث الحياة ولهذا الشعور الأثر في الفرد والجماعة وهو على الضد من الانتماء الاجتماعي والألفة مع المحيط، فهو شعورٌ بالانفصال عن المجتمع وما يعنيه هذا الانفصال من وحدة وغربة. وفي الاغتراب الثقافي فهو الشعور بالفجوة الثقافيَّة بين متبنياته الفكريَّة والثقافيَّة ومتبنيات البيئة الثقافيَّة المحيطة وتكوينها.
▪ وفي الاغتراب السياسي فإنه يشير الى شعور المواطن بالانفصال أو رفض النظام بسبب عجزه السياسي أو السخط السياسي، فالمقصود من الاغتراب السياسي اغتراب الفرد في شبكة علاقاته مع مؤسسات الحكم والدولة، الفرد في الدولة يشعر أنه غير قادر على التأثير في النظام العام، وانه يُدفَع إلى الهامش، ويشعر أنه مقموع، ولا يجد قناة لينشط من خلالها ويؤثر في النظام. كما يعرّف الاغتراب السياسي عند البعض أنه إحساس المواطن بالغربة عن حكومته وعن النظام السياسي، واعتقاده بأنَّ السياسة والحكومة يسيّرها آخرون لحساب آخرين، طبقاً لمجموعة قواعد غير عادلة حيث تتحكم أقلية متميزة على جهاز الدولة وهو يشعر في هذه الحالة أنَّ المجتمع والسلطة لا يحسان به، ولا يعنيهما أمره وبأنه لا قيمة له في ذلك المجتمع، فالمغترب بطبيعته لا يميل إلى المشاركة السياسيَّة، لأنَّ مشاعر اللاقوة السياسيَّة تشكل حواجز نفسيَّة تمنعه من المشاركة والحضور السياسي.
▪ وهناك أربعة أنماط مختلفة يضعها العلماء المعنيون بهذا المجال، يمكن التعبير من خلالها عن الاغتراب السياسي وهي:
العجز السياسي: وهو شعور الفرد بأنه لا يستطيع التأثير في أفعال الحكومة التي يخضع لحكمها.
انعدام المعنى السياسي: وهو تصور الفرد بأنَّ القرارات السياسيَّة غير واضحة وغير متوقعة وربما غير عادلة أيضاً.
انعدام المعايير السياسيَّة: وهو تصور الفرد بأنَّ المعايير أو القواعد التي تهدف إلى تنظيم العلاقات السياسية معطلة وأن الخروج عن السلوك المحدد أمر شائع.
العزلة: وهي رفض الفرد للمعايير والأهداف السياسية التي يحملها ويتشارك فيها على نطاق واسع أعضاء آخرون من المجتمع.
▪ تنطبق ظاهرة الألفة والاغتراب على جميع العلاقات الثنائيَّة سواء علاقة الفرد بأسرته أو الموظف بدائرته أو ارتباطه بالبيئة الثقافية او في تشكيل سياسي محدد بين الفرد والجماعة السياسية او حتى في علاقة جماعة مع المجتمع، بسبب الخروج عن الأيديولوجية السائدة او تطابقها.
▪ نشوء ظاهرة الاغتراب أو حصول حالة الألفة لا تحمّل احد الطرفين المسؤولية عن ذلك، حيث حصولها واقع، بمعزل عن أصالة البيئة المحيطة او صحة المتبنيات والقناعات لدى الفرد. فالتقصير من أحد طرفي الموضوع أو كليهما وحسب الحالة.
▪ نتيجة حصول الألفة بين العنصر وبيئته هو التفاعل والتكامل والإنتاج وعند حصول الاغتراب فهو الفرقة والتشتت والتراجع وبمستويات مختلفة وفق ما ذكر سابقاً.
▪ الأصالة دوماً هي في تكوين الألفة لضمان الفاعلية وتؤثر في ذلك الظروف الموضوعيَّة بمختلف مستوياتها.
▪ وأخيراً فمن يعاني الاغتراب يبحث عمن يألفه، ليلجأ إليه، ليلوذ به، لينقذه من غربته، فالغريق يتشبث بكل حشيش... فيكون سهل المنال للخادعين والمستغلين وهم موجودون في كل زمان ومكان. فلا تلوموا الغارق، بل مدوا يد العون لإنقاذه.