الإعلام .. بين الثابت الوطني والمتحول الفئوي

آراء 2019/10/14
...

عبدالزهرة محمد الهنداوي 
 
بدا المشهد الاعلامي العراقي ، الذي رافق تظاهرات الأول من تشرين الأول ، في بغداد وعدد من المحافظات ، متشظيا حينا ومتشرذما او متخبطا حينا آخر ، لايعرف ، أي خطاب او لغة او سلوك ينتهجه في خضم  واقع ملتهب ، كان فيه صوت الرصاص ، يطغي في أحايين كثيرة على هتافات المتظاهرين ، وقطعا ان هذا التشظي او التشرذم او فقدان بوصلة الخطاب ، لم يكن مختلفا كثيرا عما كان يسود المشهد السياسي من اضطراب وتقاطع في الخطاب والمواقف ، 
 ولعل المشهد الاعلامي يمثل في مساحات واسعة من أدائه ، انعكاسا او ارتدادا للواقع السياسي في كثير من المواقف والمتبنيات ، إذا ما علمنا وشائج الارتباط بين الاعلام والسياسة ، تمويلا وإدارة .. ولذا بدا الأمر ،وكأننا نعيش في ظل فوضى إعلامية ، ضربت بأطنابها عقولنا جميعا ، وهنا ، لم يعد بإمكان المتتبع للأحداث ان يرسم صورة او رأيا او موقفا ازاء ما يحدث ، لاسيما بعد ان لجأت الحكومة الى قطع خدمة الانترنيت نهائيا ، الأمر الذي فاقم المشكلة ، وزاد من حالة الفوضى الإعلامية . كانت أصابع المشاهدين والمتابعين ، دائمة الضغط على أزرار جهاز التحكم ، متنقلة بعيون وعقول أصحابها ، من قناة الى اخرى ، في محاولة لملاحقة الأحداث ، او معرفة ما يجري على وجه الدقة والتحديد ، ..فيما كانت القنوات الفضائية ، خلال الساعات الاولى لاندلاع التظاهرات مرتبكة ، فبعضها اعتمد منهج التأجيج ، والدعوة بنحو غير مباشر الى المزيد من اعمال الشغب ، وبعضها اعتمد على نشر العواجل الحمر بنحو سريع ، فكان الكثير من تلك العواجل ليس دقيقا او لا قيمة خبرية له ، فيضطر المشاهد الى مغادرتها بحثا عن منصة اخرى ، قد يجد ضالته فيها ، فيتفاجأ ان هذه الفضائية التي دخل فضائها ، لم تكن تعلم بما يجري في ساحة التحرير ، فهي مازالت تحضّر لوجبة العشاء !!، او انها تنقل اخبارا من قارات اخرى ليس فيها أي تظاهرات !! .. وقنوات اخرى بدت مهتمة بمجريات الأحداث ، ولجأت الى أسلوب التغطيات المباشرة ، عبر تضييف محللين سياسيين وخبراء ستراتيجيين ، بعضهم لم تكن له أي علاقة لا بالتحليل بجميع أنواعه  ولا بالخبرة الستراتيجية ، ما أوقع الفضائيات في حرج شديد .. فيما سعى قسم آخر من المحطات الفضائية الى ان يكون متوازنا  مهنيا  صادقا في نقل الأحداث ، بحسب ما تتيح له الظروف والإمكانات .. ان مثل هذا التشظي والفوضى الإعلامية ، تسبب في أحداث نقمة جماهيرية ازاء وسائل الاعلام والحكومة على حد سواء ، بعد ان اكتشف الناس ان البعض من المنابر الإعلامية كانت تسعى ، أما لخلط الأوراق لتمرير قضية ما ، وسط فوضى وضجيج ودخان وسكاكين ورصاص ودماء وعويل ، وبعضها الاخر سعى الى تقزيم القضية برمتها ، مبديا لا ابالية بما يجري ، وهذا أيضا اثار حنق الناس واستفز مشاعرهم ، أما القنوات التي كانت تتبع سياسة التوازن ، فهي الأخرى لم تسلم من القدح والذم والانتقاد الحاد من قبل المتابعين .. 
فيما كان نصيب الحكومة من الانتقاد هو الأعلى ، بعد ان غاب صوتها في اليومين الاوليين من اندلاع التظاهرات ، ومن أسباب الانتقاد أيضا ، غياب دور هيأة الاتصالات عن المشهد الاعلامي ، ولم يبدر منها أي فعل او اجراء ، لضبط إيقاع الاداء الاعلامي ، ونتيجة لهذا الغياب غير المبرر للهيأة ، شهدت الساحة الإعلامية  أحداثا ، هي الأخرى لم تكن سهلة .. ومن ذلك ما تعرضت له مقار بعض الفضائيات من اعتداءات ،مازال فاعلها مجهولا ، وهو أمر يجب ان نتوقف عنده طويلا ، بغض النظر عن مواقف هذه الفضائيات وطريقة تناولها للأحداث ، فان كانت قد تجاوزت الخطوط الحمر بإدائها ، فقد كان بالإمكان محاسبتها عبر آليات قانونية ، وليس بهذه الطريقة ، التي تشير الى وجود ضعف في ادارة مجريات الأحداث .. ومرة اخرى تثبت الأحداث ، ان الاعلام في العراق مازال بحاجة الى المزيد من التنظيم ورسم سياسة إعلامية واضحة المعالم ، تأخذ بنظر الاعتبار الثوابت الوطنية ، التي نضع دونها خطوطا حمراء ، لا ينبغي تجاوزها باي حال من الأحوال ، ومن دون شك ان ذلك يرتبط بالواقع السياسي العراقي ، الذي مازال هو الاخر ، لم يصل الى مرحلة الرشد ، ليكون قادرا على الفرز بين الفئوي والوطني ، او انه قادر على الفرز ، الا انه يغلّب الاولى على الثانية !!، ومثل هذا الرشد ، او النضج السياسي ، يتطلب ايجاد آليات تنظم مسارات العملية الديمقراطية بوجهها الحقيقي ، وتنضّج عملية الإدلاء بالأصوات ، بعيدا عن التأثيرات والمصالح والتدخلات الخارجية .. 
وحتى ذلك الحين ، فإن الأمر يتطلب تنظيما للواقع الاعلامي وفق القانون السائد ، وهذه مهمة هيأة الاعلام والاتصالات ، وقبل ذلك ، أتصور اننا بحاجة الى مدونة شرف اعلامي ، يتبانى عليها ، ويلتزم بها الجميع ، من دون النظر الى الخلف ، حيث التأثيرات السياسية .. فالاعلام يبني 
الدولة .