الاخفاق في اقامة نظام ديمقراطي له توصيفه الحقوقي والسياسي الكامل يستدعي كثيرا من الاسئلة، لاسيما مايتعلق بطبيعة الفكر السياسي الذي يدعو للديمقراطية، أو بطبيعة النظام السياسي الذي يهمّش كثيرا من مظاهر تلك الديمقراطية وتحت يافطات وشعارات متعددة.الحالة العراقية ليست بعيدة عن تعقيدات ذلك الاخفاق، ولا عن اشكالات” صناعة الديمقراطية” على مستوى المؤسسات،
أو على مستوى علاقتها بآليات التطور والتنمية، وبمعالجة مشاكل الافراد الحقوقية، أو على مستوى التخلّص من اعباء” الذاكرة الاستعمارية” وذاكرة الحكم الشمولي، والتي مازالت تعصف بالتداول الآمن لمفاهيم الدولة والحرية، وبقيم التنوع والتعدد، وحتى بالديمقراطية ذاتها..
إن تشوّه العلاقة بين الفكر السياسي والبيئة الديمقراطية يضعنا في سياق توصيف” الدولة المتخلفة” أو” الدولة الفاشلة” والتي لم تستطع حيازة شروط وعوامل التطور والتحوّل، ولا شروط تكوين” المجتمع” السياسي الحاضن لفكرة الدولة، ولا حتى السياقات الفاعلة ل” المجتمع المدني” الداعم لها، فكل مايحدث في سياق الصراع الذي تعيشه الدولة والمجتمع منذ عام 2003، هو تدابير اجرائية لهياكل حمائية تقودها السلطة أو الجماعة التي تسيطر على الثروة، وعلى القوة، والتي تملك مشروعية استخدام العنف لغرض استمرار فعل السيطرة، حيث تكتفي الديمقراطية في هذا السياق بمظاهر اشهارية عن التداول السلمي، وبالانتخابات التي لم تفرز لحد الآن كتلا سياسية تتفاعل مع الصورة الحقيقية للدولة الديمقراطية، ومع مشروعها وهويتها الثقافية والحضارية
والمدنية..
إن الاخفاق في البناء الديمقراطي يعني اخفاقا في بناء النُظم التي تجعل من تلك الديمقراطية نظاما فاعلا وعقلانيا للتحرر والتقدم، وللتحوّل، فغياب ذلك النظام يعني تيسير الظروف لبروز ارضية للعنف، و لمظاهر الاستبداد والديكتاتورية، وربما العودة الى فكرة” الاستعمار” ذاته، من خلال القبول بمعاهدات واتفاقيات تنصّ على حماية المصالح، مقابل حماية الانظمة السياسية ذاتها من الانقلابات الداخلية، أو من الحروب الاقليمية، وهو مايحدث الآن في كثير من دولنا المجاورة، حيث تغيب فيها الديمقراطية مقابل حضور انظمة وادارات سياسية عصابية وسلطوية، تقبل بوجودها مقابل حماية الآخر.
مشكلة العراق السياسية ليست وليدة اليوم، بقدر ارتباطها بتاريخ معقد من اشكال ادارة الدولة السياسية المشوّهة، لاسيما في المراحل الجمهورية، والتي ارتبطت بحاكميات طاغية، وبنزعات انقلابية ذات شهوة فاضحة للسلطة، وأن تركيبها العصابي الايديولوجي والعسكري والطائفي والقومي جعلها تنزع لفرضية السلطة” المقدسة” والحاكم” المقدّس” على حساب الشعب، وهو مايعني تغييبا كاملا للديمقراطية التي تخص الفرد والجماعة، مقابل الحضور العنفي والديكتاتوري لمركزية السلطة، بوصفها القوة الشرعية والحقوقية التي تملك حق الحماية والرعاية
والاستحواذ.
الدولة وشرعنة السلطة.
ماتعنيه الديمقراطية هو توصيفها كإطار حقوقي اولا، وبيان قدرتها على تجسيد ارادة الشعب دون اكراه أو قهر ثانيا، فضلا عن الاسهام في ايجاد بنى اجتماعية وسياسية واقتصادية تكفل فاعلية الاطار وقوة الارادة ثالثا، وهذا مايجعل هوية الدولة الديمقراطية رهينة بالاجراءات التي تصنعها الدولة وتحميها، لاسيما في سياق وجود المؤسسات والحقوق، وفي اطار تحولات كبرى تتجسّد فيها المصالح الوطنية الكبرى على حساب المصالح الضيقة، وهو ماحدث في دول متعددة مثل ماليزيا وسنغافورا، واخيرا في اثيوبيا، إذ كفل النظام السياسي عوامل التحوّل والحماية والادارة الرشيدة والتطور من خلال جملة من الاجراءات- القوانين والممارسات والبرامج والمشاريع- التي تتعزز فيها شرعية السلطة كوجه مهني وثقافي وسياسي للدولة، وعبر الحماية الحقوقية للتنوع والتعدد، وعبر حماية الثروة الوطنية من الهدر
والفساد..
تجربة الديمقراطية البرلمانية في العراق تحولت الى تجربة للتناحر، ولبروز جماعات فرضت سلطتها على الدولة، وعلى تطور مسار العملية الديمقراطية، فضلا عن دورها في الترهل السياسي وفي ادارة الاستغلال، وفي اسشراء طواهر الفساد الذي تعتاش عليه تلك الجماعات التي لا تتعامل مع الدولة والديمقراطية والادارة الرشيدة من منطق دستوري وقانوني، بل من منطق المصالح والحماية التي تتيحها القوة التي
تملكها..
التظاهرات الشعبية التي انطلقت في عديد المدن العراقية خلال الايام الماضية كانت رهانا على الديمقراطية، وعلى جدّتها كقوة فعالة في الأثر والتأثير، وعلى فاعلية مؤسساتها الرسمية، مثلما هي رهان حقيقي على قدرة الدولة في حماية المتظاهرين، وفي كشف الجهات التي قامت بقتل المتظاهرين، وبالتالي التجاوز على الحق والتوصيف الدستوري للديمقراطية.
إنّ غياب التوصيف الثقافي للديمقراطية هو أكثر الاضرار تأثيرا على صورتها الاجتماعية، وعلى فاعلية الرأي العام المؤمن بها، إذ تمثّل القيمة الثقافية في هذا السياق مشروعا وطنيا تربويا وتعليميا ومهنيا ومعرفيا، تتجسد من خلاله علاقة الديمقراطية بالدولة، وبمؤسساتها، وبطاقة الفعل الديمقراطية على أن يكون فعلا ثقافيا له خطابه وصورته وبرنامجه، والذي يمكن الدفاع عنه والثقة به، فالديمقراطية لاتعني الانتخابات والاستفتاءات فقط، ولا تعني- كذلك- توزع الوظائف السياسية والمصالح الاقتصادية بين الجماعات، بقدر ماتعني وجود المشروع الوطني والسياق المؤطّر لهذا المشروع، مثلما تعني الادارة الرشيدة، والشراكات الفاعلة والمهنية، وليست الشراكات الهشة والضعيفة التي تتضخم فيها مظاهر الفساد والفشل، والقابلة لأن تتحول الى مصادر لافشال عمل الدولة، ولبروز الصراعات الهوياتية والجماعاتية، ومظاهر العنف الاهلي، وربما تحويل الديمقراطية ذاتها الى ما يشبه أشباح الحقل..