بيّنت أحداث التظاهر التي بدأت في الأول من تشرين الأول الحالي أن هناك معضلة خلل في العلاقة بين الجمهور والسياسيين (جهات وأحزاب وكتل وأشخاص وايديولوجيات).
فالجمهور على ما يبدو لا يعي بالشكل الصحيح محددات السياسة وظروفها، ولا يدرك منطقياً طبيعة عملها ومستوى التدني في أدائها والفساد المستشري بين طبقاتها ولا يفهم نفسياً أناها التي تورّمت حدّ المرض، وبسبب هذا النقص في المعرفة السياسية والنفسية استمر الجمهور في غالبه طوال هذه السنين التي أعقبت التغيير بانتخاب الوجوه والأحزاب ذاتها بآليّة التدوير التي تعيد وتدوّر الخطأ مع كل انتخاب.
والسياسة الطرف الثاني في هذه المعادلة التصارعيّة كما يبدو لا تعي هي الأخرى طبيعة الجمهور، وشكل التغيرات التي طرأت على أفكاره ومعتقداته ومثيرات سلوكه من خلال التفاعل مع عوالم أخرى افتراضية، ولا تدرك أصلاً طبيعة تلك العوالم وحتميّة التأثير، ولم تفهم في الأساس الحاجات الضرورية للعيش بمستوى مقبول من الأمان والرفاه.
إنّ العلاقة في واقع الحال بين الجمهور وبين أهل السياسة، علاقة مختلة أبقت الجمهور رقماً في مشاريع السياسة القائمة على مساعي إعادة الانتخاب فقط، تداعب حاجاته في أوقاتها - أي الانتخابات - وتتركه غاطساً في بحيرة العوز والحرمان بعد تأمين غايتها في الفوز، الأمر الذي جعلها علاقة غير توافقية كوّنت نفوراً في عقول الشباب وأثارت مشاعر عداء ترجمت على شكل تظاهر واحتجاج، سار وسطها البعض أبعد من هذا حيث التوجه صوب المقرات الحزبية (أهل السياسة) والقيام بالاحتجاج أمامها والتجاوز أحياناً حد الدخول الى بناياتها وحرق أو تدمير بعض موجوداتها.
وكوّنت أيضاً رغبات قوية في القفز من على رموز السياسة لما يتعلق بحل المشاكل وتحقيق الأهداف حيث الانطلاق الى الامام، انطلاقة لم تحدد فيها الاتجاهات، ولم تحسب في مجالها السيطرة على الانفعالات التي تفضي الى شيوع الاضطرابات وفقدان البوصلة في بعض الأحيان.
وهنا يكمن الخطر في الموضوع.
إنّ ظروف التظاهر والاحتجاج في بيئة مثل العراق ما زالت الديمقراطية فيها تنمو بعيدة عن مستويات النضج ستكون محصلة الصراع بين طرفي المعادلة المذكورة (الجمهور وأهل السياسة) في نهاية المطاف خسارة ينبغي التحسّب لها والسعي مسبقاً لعدم حصولها، وهذه غاية يقع عبء تأمينها في ظروف التعقيد السياسي والنفسي على عاتق أهل السياسة، المشاركون منهم في حكم البلاد على وجه التحديد من خلال إعادة النظر في أساليبهم الخاصة بإدارة الدولة والمجتمع، والاعتراف بالأخطاء التي ارتكبت طوال ستة عشر عاماً، وتوجيه النقد الى الذات، والتعامل مع الجمهور جمهور وطن عراقي، لا جمهور أحزاب منتقاة أو طوائف مزكاة.
والأهم منها جميعاً الاستعجال في إعادة النظر ببعض مواد الدستور.
والسعي الى معالجة الخلل في العلاقة المذكورة من أجل بناء وطن عراقي سليم، ينعم فيه الجميع بالحرية والرفاه.