د.قيس العزاوي
مضت بضعة ايام على التوغل العسكري التركي في شمال سوريا الذي لقي استنكاراً عربياً ودولياً وتفهماً اميركياً وروسياً. وتتضح في هذا الهجوم الاستراتيجية التركية الرامية الى: احتلال اراضٍ سورية بعمق 32 كيلومترا وطول 200 كليومتر لاغراض عسكرية تركية من ناحية، ولمحاولة كسر عنفوان وحدات حماية الشعب الكردية من ناحية ثانية، ولإيواء المهاجرين السوريين في منطقة آمنة كما تدعي تركيا علماً بأنّ القانون الدولي يمنع قيام “منطقة آمنة” في شمال سوريا دون التنسيق مع الحكومة السورية من ناحية ثالثة، والتحكم بممرات الترانزيت التي تربط بين مدينتي حلب وإدلب كما تربط بين مدن جنوب شرق تركيا وبخاصة تلك المناطق الرابطة بين إدلب ومحافظة الإسكندرونة بهدف السيطرة التركية على الشمال السوري بأسره من ناحية رابعة.
ويزداد الامر خطورة حين نعلم بأنّ تركيا تدّعي أن شمال إدلب المحاذي لمحافظة الإسكندرونة المحتلة جزء من أراضيها متذرعةً باتفاقية 1937 التي وقعت في جنيف وباريس بين فرنسا وتركيا لضم اراضي الاسكندرونة، ومعها اتفاقية اخرى خاصة بالحدود التركية-السورية التي رفضت سوريا قبولها. وعلى الرغم مما سبق فإنّ الواقع الميداني السوري يؤكد لنا بأن الأمر لن يكون يسيراً، فليس بمقدور تركيا تحمل مسؤولية مليونين ونصف المليون من سكان ادلب وشمال حلب وعفرين وتل ابيض.
وفي هذا الهجوم العسكري تكمن المخاوف التركية، كما تكمن مترتبات الهجوم على الاراضي السورية. والمخاوف هي أنّ تركيا تخشى مما يمكن ان تسفر عنه تجربة الحزب الديمقراطي الكردي في الحكم الذاتي على حدودها، كما تخشى من تطوير سبل عمل الحزب العسكرية والامنية وتحالفاته الدولية.. لذلك عدت تركيا اكراد شمال سوريا يشكلون تهديدا لأمنها القومي لأنّهم يرمون الى تشكيل “حكومة فيدرالية” في شمال حلب ونعتتهم بالارهابيين.. ولكن الامر يبدو اكثر تعقيدا.. فالقوى الدولية والغرب خاصة يتعاطف مع الاكراد، ويشيد بدورهم في محاربة ارهاب داعش، ويرفض التعامل معهم كارهابيين.
إنّ بوسعنا أن نعدد تجاوزات الهجوم العسكري التركي على المبادئ التأسيسية الاصيلة للسياسة الخارجية التركية فهو يؤكد: ان رجب طيب اردوغان أخل بمعادلة مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال اتاتورك “سلم في الداخل وسلم في الخارج” وهاجم دولة جارة. وأخل باستراتيجية حزبه “العدالة والتنمية” باللجوء الى الحديقة الخلفية العربية لتركيا وقام باحتلال اراضٍ عربية اسلامية. وبذلك أخل بحرمة الجوار وبـ “العمق الاستراتيجي” لتركيا باستخدام لغة المدافع والدمار، وتلك بحق تجاوزات ستؤثر بالقطع على العلاقات العربية التركية في كل مجالاتها وعلى رأسها الاقتصادية.
ويتساءل اليوم العديد من الاستراتيجيين الغربيين خاصة عن جدية الادعاءات التركية المتعلقة بـ “ملاحقة الارهابيين والدفاع عن الامن القومي” وعلى ما يبدو لم يعد أحد يصدق هذه الادعاءات للاسباب
التالية:
اولاً : لا يبدو أنّ القواعد العسكرية التركية المنتشرة على الاراضي السورية في مناطق الباب وجرابلس واعزاز وعفرين وقاعدة التنف العسكرية في جنوب البلاد قواعد مؤقتة.
وكذلك لا يعد احتلال المناطق السكانية السورية من تركيا احتلالاً مؤقتاً؛ لأنّ هذه المناطق اصبحت تحكم من قبل إدارة الشؤون الدينية التركية المرتبطة بحزب العدالة والتنمية. وها قد مضت سنة ونصف على دخول الدبابات التركية الى هذه المناطق واحتلالها بذريعة “ملاحقة الارهابيين” التي جرت في إطار عملية درع الفرات دون أن تقرر تركيا اردوغان متى ستقوم بالانسحاب منها.
ثانيا: على عكس ادعاءات صحوات الضمير الغربية للدفاع عن الاكراد، فإنّ الواقع الميداني مخالف تماما لذلك. ففي الوقت الذي بدأت فيه العملية العسكرية التركية “نبع السلام” صدرت اوامر الرئيس الاميركي دونالد ترامب بسحب ألف عسكري اميركي يشكلون نصف عدد القوات الاميركية المرابطة في منبج.
وعلى الرغم من بكائيات الرئيس الفرنسي إمانوئيل ماكرون على الاكراد فقد امر بسحب قواته هو الآخر من المنطقة ومن التحالف الدولي لمحاربة داعش، وعدد هذه القوات يربو على ألف جندي فرنسي في سوريا والعراق .. وهكذا سمح الضمير الغربي من جديد بترك الاكراد وحدهم امام القوة العسكرية التركية.
ثالثاً: لم يكن الهجوم العسكري التركي على الاراضي السورية هو الاول، فقد وقع في السنوات الثلاث الماضية هجومان قبل ذلك، وكانت الذرائع واحدة ملاحقة الارهابيين والقلق من الحرب الأهلية المستمرة منذ ثماني سنوات. ومن الملاحظ أنّ العملية العسكرية الثالثة شرق نهر الفرات لقت تفهّماً غربياً على الرغم من التباكي الغربي على الحلفاء الاكراد والاستنكارات، وتمت ضمن وفاق واتفاق غربي تركي جعل اردوغان لا يتحدث كسابق عهده عند ذكر الدول الغربية بالطرف السياسي الآخر. ويؤكد في هذا الصدد وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أنّ واشنطن اقتربت جداً من تصورات انقرة لإقامة “المنطقة الآمنة” في شمال سوريا.
رابعاً: تسمح العملية العسكرية التركية الاخيرة لأردوغان بإعادته الى صدارة الاحداث بعد تدهور مكانته، كما تسمح بالتغطية على نقاط ضعفه السياسية التي تمثلت بفقدان حزبه السيطرة على انقرة واسطنبول في الانتخابات المحلية، وفي انشقاق العديد من قادة الحزب عنه وتحولهم لمعارضته.
يسعى اردوغان لتعويض ذلك بتأمين دور له ولبلاده في صناعة مستقبل سوريا من ناحية، ويسعى للظهور كراعٍ ومقررٍ لاية تسوية في سوريا مع الاطراف الكبرى مثل اميركا وروسيا وايران، وذلك من خلال فرض الاحتلال على اراضٍ سورية باعتباره امرا واقعا من ناحية ثانية، وتحقيق هدفه الاستراتيجي باضعاف الطرف الكردي عسكرياً وسياسياً من ناحية ثالثة.
وغنيٌّ عن البيان ان الخطط التركية في سوريا وفي المحيط الاقليمي وبخاصة في مرحلة التراجع الاقتصادي والسياسي التركي تدفع اردوغان الى المرونة والى تقديم المزيد من التنازلات للغرب عامة بهدف الحفاظ على انتماء تركيا الى جبهة “الغرب الاستراتيجي”، والى نادي الحلف الاطلسي الذي يشكل الجيش التركي ثاني اكبر جيش فيه. كما ان ضمانات عدم الانتكاس الاقتصادي لن توفرها لاردوغان سوى “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” فلا غرابة لو لاحظنا تنسيقاً تركياً اكبر مع الغرب على حساب العرب بالطبع!.