أمازالتْ رواندا تتصارع مع تركتها؟
بانوراما
2019/10/21
+A
-A
آلان كويل
ترجمة: شيماء ميران
منذ خمسة وعشرين عاما ، قامت جماعات قبائل "هوتسي" المهيمنة على رواندا بحملة عنفٍ خطط لها جيدا على قبائل "توتسي" الاقلية الذين أتهموا بأنهم خونة. وبعد مئة يوم من دورة عنف مستمرة، توقف القتل بعد ان بلغت حصيلة نحو مليون انسان معظمهم من التوتسي، مع بعض الهوتسي المعتدلين الذين عارضوا إراقة الدماء.
كان حجم الوفيات صادما، وتوقع الكثير زيادة عدد الضحايا مع اجتياح سيل القتل جمهورية كونغو الديمقراطية المجاورة،
ما اشعل سنين من الصراع في دول منطقة البحيرات العظمى الافريقية.
وعلى امتداد هذا الطريق المخضب بالدماء اصبح العنف الجنسي من ضمن اهوال الحرب، فعانت النساء من حالات الاغتصاب لا تعد ولا تحصى ومن الاغتصاب الجماعي، لدرجة زادت من سرعة انتشار مرض الايدز، وقد وصمت الذرية الناتجة عن هذه الاعتداءات بإسم" اطفال القتلة".
عندما حل العام الذي عُين فيه نيلسون مانديلا اول رئيس أسود لجنوب افريقيا، والذي كان يمثل رمزاً لأمل القارة والانتصار على التمييز، كانت افريقيا ايضا تعيش فوضى سياسية وعنفا كارثيين في نظر الجميع. ولم يكن اللوم حكرا على القارة.
الحذر الدولي من التدخل
اما الولايات المتحدة الاميركية التي أصابها الذعر لمقتل جنودها وإذلالهم في الصومال بسبب معركة مقاديشو التي وقعت قبل مذبحة رواندا بأشهر قليلة، فلم يكن لديها رغبة بالتدخل. إذ قال الرئيس الاميركي آنذاك بيل كلينتون، والذي كان في منصبه عند انتشار القتل في النصف الاخر من العالم، بعد سنوات خلال زيارته لرواندا: "لا أظن أننا كان باستطاعتنا إنهاء العنف، لكني اعتقد أنه كان بإمكاننا الحد منه، وأنا آسف لذلك".
أما فرنسا التي تعد اللاعب المهم في الجزء الناطق بالفرنسية من أفريقيا، فقد واجهت اتهامات بدعمها قيادة الهوتسي قبل وقوع المجازر وأثناءها.
ووصف رئيس رواندا بول كاغاما الجنود الفرنسيين بأنهم "الطرف الفاعل" في الإبادة الجماعية، وهي التهمة التي رفضها رئيس الوزراء الفرنسي الاسبق إدوارد بالادور واصفا إياها بأنها" كذبة المصالح الذاتية"، ما جعل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يأمر مؤخرا بإجراء دراسة حكومية لمدة عامين عن الدور الفرنسي في تلك الإبادة.
اما الامم المتحدة التي كان لها قوة بسيطة مكونة من2500 عسكري في رواندا خلال المجازر التي حدثت في الايام السابقة ، فكانت متهمة برفضها منح الإذن لقائدها المحلي الكندي اللواء روميو دلاير للهجوم على مخبأ اسلحة هوتو الذي كان مدخرا لاستخدامه خلال المذبحة.
كان كوفي عنان مسؤول عمليات حفظ السلام، قبل تسلمه منصب الامين العام للأمم المتحدة، وبعد سنوات قال عن تلك المجازر: "ينبغي علينا جميعا أن نندم بشدة، لاننا لم نفعل ما بوسعنا لمنعها". ومع هذا يكشف التاريخ ان درس رواندا لم يكن رادعا بما يكفي.
فبعد عام فقط من الإبادة الجماعية، قدمت احداث وسط أوروبا التي حصلت بعيدا في مدينة سربرينيشا البوسنية مثالا تحذيريا آخر عن تحالف شرير لدوافع الإبادة الجماعية محذرا الامم المتحدة، فقد قُتل ثمانية آلاف مسلم بوسني رغم وجود القوات الهولندية لحفظ السلام.
إشعال فتيل المذبحة
ووجدت هيئة قضائية افريقية ان العديد من الجناة الذين كانوا سببا لآلام رواندا هم من الكنيسة الكاثوليكية الرومانية في بلجيكا، الدولة المستعمرة السابقة
للبلاد.
وكانت شرارة الإبادة الجماعية قد جاءت في السادس من نيسان 1994، عندما اسقطت طائرة تُقلّ رئيس البلاد، جوفينل هبياريمنا (من الهوتو) ونظيره رئيس بورندي المجاورة؛ سيبريان نترياميرا عند اقتراب الطائرة من كيغالي عاصمة رواندا.
ولم يتم التأكد بوضوح من هوية الجهة المسؤولة عن إسقاط الطائرة او ما اذا تم التخطيط المحكم مسبقا للإبادة الجماعية، وأنها كانت بحاجة فقط لإشعال شرارتها المميتة. فخلال ساعات قليلة، بدأت عمليات القتل.
واجتمعت قوات النخبة الحكومية المدعومة من قبل ميليشيا هوتو المخيفة، وقاموا بإعدام قادة توتسي العسكريين والسياسيين.
كما انتشرت الحواجز لتصفية الروانديين الذين تشير هوياتهم الرسمية الى أنهم من التوتسي، وهو تمييز تم وضعه في ثلاثينيات القرن الماضي من قبل سلطات المستعمرة البلجيكية. وكان البلجيكيون مشابهين لأسلافهم الألمان في تفضيلهم نخبة العرق التوتسي حتى جاء زمن ارتفعت فيه الاغلبية الهوتية عام 1959.
تطهير عرقي
اما في المناطق الريفية حيث كان الناس الهوتسي والتوتسي يتعايشون ويتزاوجون، فقد انتشرت الدعاية الحكومية عبر نشرات الاخبار الاذاعية ومقالات الصحف التي تحث الهوتو على حمل اي سلاح يجدونه، كالمناجل والهراوات لقتل جيرانهم.
كما تم إجلاء العمالة الاجنبية من البلاد والإبقاء على الموظفين الروانديين. وكان الناس يذبحون داخل الكنائس والبيوت والحقول ومصارف المياه وعلى الطريق والملاعب ونقاط التفتيش.
وكما حدث في كمبوديا خلال سبعينيات القرن الماضي بعد الاعمال الوحشية التي قام بها حزب (الخمير الحمر) الحاكم لكمبوديا 1979-1975))، تحملت اجيال المستقبل إرث كابوس وطني بإحياء تلك الذكرى وعرض جماجم الضحايا المكدسة على شكل صفوف.
في العام 1994 أسقطت الإبادة الجماعية قرار وقف اطلاق النار الذي كان قد أوقف حربا اهلية استعرت منذ العام 1990 بين القوات الحكومية ومتمردي الجبهة الوطنية الرواندية بقيادة التوتسي كاغاما الذي أصبح رئيسا لرواندا لاحقا .
وبحلول مطلع شهر تموز شنت الجبهة الوطنية هجوما واسعا لاحتلال العاصمة كيغالي. وقد توقفت عمليات القتل في رواندا نفسها لكن تبادل الاتهامات العرقية لم يتوقف. وعلى الرغم من أراضيها المدمرة والمحاصيل المهملة وانخفاض عدد سكانها بسبب عمليات قتل التوتسيين وهجرة لاجئي الهوتسيين اللاحقة الى كونغو، دخلت رواندا عهد إزدهار تدريجي جديد، لكنه غامض.
وطرحت السنوات اللاحقة تساؤلات عن وضع العدالة في رواندا بعد الإبادة الجماعية والثمن الذي دفعه الروانديون من اجل تحقيق الرفاه والاستقرار تحت حكم الرئيس كاغاما .
تغيير دستوري
دوليا، اصبح الرئيس الرواندي الذي تسلّم منصبه الرئاسي سنة 2000، مفضلا لدى القادة الغربيين والمانحين، بضمنهم الرئيس الاميركي الاسبق كلنتون وبيل غيتس مؤسس شركة مايكروسوفت. وتباهت مدن البلاد بشوارعها النظيفة وانخفاض نسبة الجريمة، والاقتصاد النامي بسرعة، وقورن كاغاما بالرئيس السنغافوري لي كوان يو الذي دمج الحكم المستبد بالازدهار.
ومع ان النظام الحكومي لكاغاما نشأ من معارضة شديدة الترسخ والتعصب إلا انه حصل على منفذ للمرور.
وقد كتبت الصحفية والكاتبة ميشيلا رونغ في صحيفة الغارديان "ان الدول الغربية التي لم تفعل شيئا لتجنب المذابح عاملت رواندا بلباقة منذ ذلك الوقت، كجزء من الاعتراف بالشعور بالذنب". وكان حكم كاغاما مقتصرا على ولايتين رئاسيتين، لكنه مغتاظ من هذا التقييد كنظرائه الاقليميين في اوغندا وبورندي والكونغو وحكام دول أخرى.
وجرى تغيير للدستور بالاستفتاء الذي اجري سنة2015 ، ليتمكن من البقاء رئيسا حتى عام 2034، اما انتخابات 2017 فقد فاز فيها بنسبة مذهلة من اصوات الناخبين وصلت 98.8 بالمئة، وتفوق على خصميه الرئيسين ديان رويجارا التي تم استبعادها وسجنها لاحقا، وفيكتور إنغابير الذي كان سجينا سابقا.
وسجلت مجاميع حقوق الانسان إنتهاكات عدة داخل رواندا واتهمت السلطات بملاحقة المعارضين في اوغندا وكينيا وجنوب افريقيا واوروبا.
ففي العام 2014 عثر على رئيس الاستخبارات السابق لحكومة كاغاما وهو المنشق المعروف باتريك كاريجيا مقتولا في أحد فنادق مدينة جوهانسبرغ الفاخرة، مع ان الحكومة رفضت التلميحات بانها وراء مقتله.
واشاد مقال افتتاحي لصحيفة نيويوك تايمز برواندا عند احيائها عام 2014 الذكرى السنوية العشرين للإبادة الجماعية ووصفها بانها " جزيرة النظام والرخاء النسبي وسط منطقة الفقر والتقلّب السياسي". لكن، بإحصاء مجموعة القيود على الحقوق المدنية والسياسية التي تضم الاعتقالات والتعذيب والاختفاء والقتل، استنتج المقال "معالجة تركة الإبادة الجماعية المدمرة لرواندا هي الطريقة الوحيدة لتجنب مأساة اخرى في المستقبل، والطريقة الامثل لتكريم ضحايا
رواندا".