علي حسن الفوّاز
وسط حرب المصالح والمغانم، وتعقيدات الصراعات السياسيّة يكتسب الحديث عن “حرب الاصلاح والتنوير” بعداً آخر، وضرورة أخرى، إذ تفترض هذه الحرب “الناعمة” و “الواعية” وجود بيئة صالحة، وقوى مدنية تؤمن بمشروعها وبخطابها، مع وجود قوى رسميّة تدرك أهمية الاصلاح لتجديد منظومة الحكم، ولتقليل هامش الاخطاء، ومظاهر التراكم والترهّل، وللتخلص من اعباء سلطة وامتيازات “الحرس القديم” الذين يتحولون الى مجال عدمي يعوّق ويعطل مسار الحياة والعمل والتنمية.
خطاب التنوير هو الممارسة الفاعلة التي تنطلق من الحاجة لمواجهة العطب الحضاري، وعطالة التجديد، ومظاهر التخلّف والجهل والفساد، وهيمنة الخرافة على العقل الجمعي، ولكي يكون هذا الخطاب ذا جدّة وعقلانية، فإنّ تعالقه بمنظومة التنمية والتعليم والمعرفة هو مايجعلنا نطالب بضرورة المجاهرة به، وبأهميته في تجديد أدوات النقد، وتعظيم شأن العقل، وترسيخ قيم المعرفة بوصفها واسطة، أو جوهرا، وكلا الأمرين سيكونان ذَوَيْ أثرٍ كبيرٍ في مواجهة واقعنا السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لأنّ هذه المواجهة تتطلب عملا جماعيا ومؤسسيا، مثلما تتطلب وعيا بالنقد، وبأهمية الاسئلة التي يثُيرها هذا النقد.
إن نقد هوية النظام السياسي هو العتبة الاساس للسؤال النقدي الكبير، والذي يخصّ مقاربة المفاهيم والافكار، والأطر التي تتشكل في سياقها بنيات الدولة، والمؤسسة، والسياق السياسي الحاكم، بما فيه سياق الحزبوية، والشعوبية، والجماعات التي تفترس مشروع الدولة في ظل عطالتها، وتشوه منظومتها، وفشل ادارتها الراشدة للثروة والأمن والمعرفة والتعليم والاشباع.
العراق وتاريخ التنوير
السفر التنويري في العراق لم يكن بعيدا عن السياسة، ولا عن الافكار، فتلازم مسارات التنوير انعكس من خلال نقد مظاهر التخلف، وهيمنة الخرافة، فضلا عن نقد الاستبداد والاحتلال، والدعوة الى إذكاء ارادة الناس، وحثّهم على التعليم والعمل، وعلى رفض مظاهر الظلم والقهر.
ولم ينحصر التنوير في العراق ضمن حقلٍ واحد، ففي السياسة كان حاضرا عبر نقد كلّ ماهو رجعي، وفي الاجتماع والثقافة والعلم بدت مظاهر التنوير واضحة وجلية، عبر مواقف العلماء، ومنهم بعض رجال الدين، وعبر مواقف المثقفين وقادة الاحزاب التقدمية، وعبر جماعات مدنية كان لها الدور الكبير منذ نهايات القرن التاسع عشر، والى اواسط القرن العشرين، والذين دأبوا على تعميق الوعي بأهمية افكار التنوير والاصلاح الفكري والمؤسسي، وحتى اصلاح الخطاب الديني، فضلا عن اهمية الوعي بالمسؤوليات الوطنية والحقوقية والثقافية، وحتى بمشاعر المواطنة، بوصفها انتماءً، وحقاً، والتزاما وعقدا اجتماعيا بين المواطن والدولة..
اشكالية التنوير تحمل في مظانها اشكاليات أكثر تعقيدا، لاسيما تلك التي تتعلق بالخطاب الثقافي والاجتماعي، والسياسي في مرحلة لاحقة، فضعف دور الانتلجنسيا العراقية كان واحدا من مظاهر هشاشة التنوير، كما أن ضعف نُظم الادارة في الاجتماع الثقافي والسياسي اسهم الى حدٍ كبير في تقليل فرص المشاركة، والمواجهة، فظل “المثقف العراقي” بلا اغطية، وأن وظيفته المتعالية تفتقد لأيِّ شرطٍ وجودي، مثلما أن تأثير الصراعات السياسية والهيمنات الايديولوجية والدينية له دوره في التشويش على مسارات التنوير، والتي ظلت بعيدة عن السياق، لأنها مُتهمة بالعلمانية تارة، وبـ “الشيوعية” تارة أخرى، فضلا عن اتهامها بالخروج عن مصالح الأمة والعقيدة، وهي تهم انعكست بشكل خطير على تعاطي الجمهور مع شعارات وبرامج الافكار التنويرية، والذي ظل خائفا منها، وشكّاكا بها، ومن ثمّ بعيدا عن آليات وخطابات مشروعها النقدي
والعقلاني..
التنوير وأسئلة الحداثة
قد يبدو ربط “التنوير العراقي” بمرجعيات غربية، واقليمية مُبررا، وطبيعيا، بسبب الطبيعة المفهومية لهذا التنوير، ولأثر الغرب التنويري في فلسفاته وثوراته ومعطياته المعرفية والعلمية، وحتى الاصلاحية، وهذا ماجعل تداول مفاهيم التنوير والاصلاح ذات طابع ثقافي أكثر مما هي ذات طابع سياسي، لا سيما أن تعقيدات السياسة في العراق منذ نشوء الدولة العراقية كانت مشوبة بكثير من الالتباسات، وبدت هذه الالتباسات أكثر خطورة ورعبا مع مراحل الانقلابات السياسية، وصولا الى مرحلة مابعد الاحتلال الاميركي، والتي تحولت فيها مفاهيم السلطة والمثقف والاصلاح الى قضايا لا إتساق بينها، حيث رعب السلطة، وهامشية المثقف وطوباوية التنوير، بما فيها غياب المؤسسات والأطر القانونية والحقوقية التي تكفل توصيف هذا الثلاثي، أو تضعه في السياق الفاعل.
إنّ عزلة المثقف، وتفكك ثنائية الثقافي/ السياسي لم تكن رغبة قصدية، بل كانت جزءا من معطيات الصراع الذي تغوّلت فيه السلطة، وضعفت فيه ارادة المثقف النقدي أو العضوي، حيث بروز ظاهرة المثقف الايديولوجي والانتهازي والاستعراضي والديني الأقرب للفقيه، وباتجاه اسهم في تشويه الوظائف الثقافية، مثلما أسهم في عزلة المثقف عن المجتمع، أو خضوعه للسلطة، أو تحوله الى أضحية لنمطها ومركزيتها ورعبها الانقلابي والايديولوجي والعصابي.
إنّ الحديث عن التنوير- اليوم- يتطلب فضاءً عمومياً تنمو فيه الحرية، وأطر الحقوق، فضلا عن وجود البيئة الاجتماعية والسياسية التي تقبل بالخطاب “الليبرالي” ليس بوصفه المجرد، بل بوصفه تعبيرا عن الحرية وعن حقوق الفرد في المجتمع، بما فيه حقه في العمل والمعيش، وحقه اختيار الرأي والعقيدة والموقف، وعبر وجهة نظره حول مفاهيم الدولة والهوية، وأحسب أن هذه الحقوق مازالت غائبة، أو مُعطلة، بسبب الطبيعية الجماعوية للمجتمع العراقي، وللادارة السياسية، ولطبيعة السلطة التي لم تتحرر من عقدة تاريخ الجماعة والقرابة، وهي الوجه الاكثر بشاعة للمحاصصة، والتي تعني تأطير فرضية الدولة عبر سياق أنموذجها العاجز، وغير القادر على التحوّل، وعلى قبول الاصلاح بمعناه كقيمة حقوقية، أو بمعناه كأفق يستوعب جملة المتغيرات التي يطرحها خطاب الحداثة على مستوى المؤسسات والقوانين، أو على مستوى حقوق الافراد في مواطنيتهم، وفي فرادتهم، وفي نظرتهم لقيم التقدّم والتطور وبناء الدولة/ المؤسسة الحديثة.