لنا أن نتصوّر مدينة ساحليّة لديها ميناء نشط في ذروة تفوّقها الصناعي لمرحلة ما بعد الحرب: بواخر النقل الضخمة تنقل البضائع جيئة وذهابا مع تدلي حاويات ثقيلة من رافعات عالية علو السماء. وتخترق أصوات الآلات الثقيلة الهواء، الذي يمتزج برائحة الصلب الجديد.
هذا كان هو المشهد في مدينة بريمن الألمانية المنضوية لرابطة الهانزية التجارية، التابع الاتحادي الألماني الأصغر، وعلى مدى عدة عقود.
وكانت هذه الولاية التي تضم مدينتين ونحو 660 ألف ساكن، وبضمنها ميناء بريمرهافن، كانت لفترة طويلة معقلا لبناء السفن وقطاعات صناعية متعددة أخرى. وخلال الحرب الباردة، كانت موطنا لتواجد حيوي للبحرية الأميركية.
لكن بينما يواصل ثاني أكبر ميناء في ألمانيا نشاطه، لا تبدو الأمور على المنوال نفسه الى حد كبير هذه الأيام، والسبب في ذلك يعود الى أنه برغم تفاخرها بكونها تصنّف ثاني أعلى ولاية في ألمانيا من ناحية الناتج المحلي الاجمالي للفرد الواحد، تعد بريمن الأكثر عدم مساواة بالمدخولات المالية من أية ولاية ألمانية أخرى.
وبحسب أحدث إحصائيات اتحادية، يعيش 22,7 بالمئة من سكان بريمن في حالة فقر نسبي، وهو أكثر من أي مكان آخر في ألمانيا، وضعف النسبة الموجودة في بافاريا، الولاية الأقل اختلافا من ناحية المدخولات المالية. ويستخدم مؤشر الفقر النسبي داخل أوروبا لتقفي أثر عدم المساواة، ويشير الى نسبة السكان الذين يكسبون أقل من ستين بالمئة من متوسط الدخل في المنطقة.
صعوبات الماضي
لسوء الحظ، فإنّ قصة بريمن تعد مألوفة بالنسبة لمراكز صناعية رئيسية أبتليت بأزمات مالية، فوسط خضم التباطؤ الاقتصادي العالمي خلال سبعينيات القرن الماضي، ضرب قطاع التصنيع بشدة، وانهارت شركتان كبريان متخصصتان ببناء السفن خلال الثمانينيات والتسعينيات، تتخذان من بريمن مقرا لهما، لينتج عن ذلك، بشكل مباشر وغير مباشر، خسارة نحو عشرين ألف عامل لوظائفهم على مدى خمس عشرة سنة. حاليا، البطالة في بريمن تصل الى نحو عشرة بالمئة، وهي الأعلى في البلاد، مقارنة بالمعدل الوطني البالغ خمسة تقريبا، و2,7 بالمئة فقط في بافاريا.
هذه المؤشرات جميعا تعد مفزعة إذا ما نظرنا بعين الاعتبار الى أنّ هامبورغ فقط هي من لديها أعلى ناتج محلي اجمالي للفرد الواحد. وبحسب المرصد الاقليمي للاتحاد الأوروبي، تعد بريمن صاحبة أكبر نسبة صادرات من أية منطقة ألمانية أخرى؛ وبالوقت نفسه، فإنّ بحوثها العامة واستثماراتها التنموية ترتفع بنسبة أعلى من 150 بالمئة من المعدل الأوروبي، ونحو 134 بالمئة عن المعدل الألماني. ويمثل مصنع شركة مرسيدس بنز المشغّل الأكبر لديها، بينما مصنع شركة ايرباص هو الثاني من حيث الضخامة في ألمانيا، علاوة على شركات أخرى عملاقة تنتج سلعا مختلفة. يقول جورج بلوغر، من معهد بحوث التنمية الاقليمية والحضرية في دورتموند: “بريمن مدينة فقيرة وغنية في آن واحد”.
ومع انهيار قطاع الصناعة المحليّة، وجه المسؤولون طاقاتهم ومواردهم نحو تعزيز الاقتصاد المعرفي للمنطقة، لتتقدم وسائل التقنيات المترامية الأطراف خلال ثمانينات القرن الماضي؛ وتتمتع جامعة بريمن، التي تأسست سنة 1971، بسمعة رائعة من حيث كونها تمثل مؤسسة بحثيّة. بيد أن تمويل هذه المشاريع ساعد على ارتفاع الدين العام، بحسب الخبراء، ولم يفعل الكثير للتخفيف من الشعور بالضيق لمرحلة عدم اعتماد الاقتصاد على صناعة ثقيلة التي مرّت بها الطبقة العاملة المحرومة، الكثير منها من المغتربين. وتعني النزوة الى تشريعات، وحجم المدينة الصغير أيضا الى أن بريمن تخفق في مسألة واردات الضرائب الحيوية، التي تجعل العمال المحليين يدفعون مبالغ أكبر من أي مكان آخر.
تحوّل سياسي
جميع هذه العوامل، بحسب بلوغر، تجعل بريمن حالة اختبار مثالية لدراسة “الفصل المكاني”، أو كيف تم تقسيم الأحياء السكنية بين غنية وفقيرة. على سبيل المثال، منطقة غروبلنغن، القريبة من الميناء التي كانت سابقا حيّا سكنيا للطبقة العمالية المتماسكة، انحدرت لحالة الفقر. أما منطقة تينيفر، وهي تكتل لمجاميع شقق كونكريتية شيّدت مع توسع الاقتصاد المحلي، فيذكره المنتقدون كمثال على كيفية سير الاسكان الشعبي بطريقة خاطئة حينما تم تركيز الفقر بوطأة كبيرة ضمن منطقة واحدة. يقول ناتا بريزناو، طالب مرحلة ما بعد الدكتوراه في جامعة بريمن: “بإمكان المرء التجوّل على قدميه كسائح حول بريمن، ولن يخطر على باله وجود أناس فقراء في الجوار”.
وبشكل متوقع، كان لحالة عدم الاستقرار أثرها البالغ على السياسات المحلية، فانهيار الصناعة المحلية قد أفضى الى تآكل ثابت للدعم المقدم الى الحزب الاجتماعي الديمقراطي الذي يدافع عن عمال ألمانيا، والذي كان يضع في حسبانه كون بريمن أحد حصونه الانتخابية الرئيسية. ونتيجة لذلك، استفادت قوى تميل الى اليسار أكثر، مثل حزب الخضر، والذي حقق مكاسب كبرى خلال انتخابات العام الحالي. هذا الأمر هو أحد العوامل التي جعلت المنطقة موضع “بحث لدراسة وثيقة الصلة تماما بما يحصل على المستوى العالمي”، بحسب برويزناو.
ومع ذلك، يشير بلوغر أنه اذا ما وضعنا بعين الاعتبار صغر حجم بريمن، فليس من الانصاف بشكل دقيق مقارنتها مع مقاطعات اتحادية كبرى، مثل بافاريا، ليمثل مؤشرا رئيسيا للأداء؛ كما أن أجواء المدينة الديناميكية، كما يضيف بريزناو، وثقافتها المنفتحة يجعلانها وجهة جاذبة، حتى لو بشكل ظاهري.
لكن على المسؤولين ايجاد وسيلة لتوزيع الثروة بشكل فاعل؛ حيث ما زال ربع سكان بريمن بالانتظار.
مجلة أوزي الأميركية