انعاش النظام السياسي

آراء 2019/10/23
...

د.مصطفى الناجي
 
يواجه النظام السياسي العراقي الحالي احد أهم تحدياته، إذ تتسع الفجوة بين مؤسسات الدولة وبين المواطنين جراء تردي الأوضاع المعيشية للعاطلين عن العمل، و انتشار الفساد بشكل غير مسبوق، فضلاً عن تراكمات عدة من سياسة المحاصصة بين الأحزاب،وأداء حكومي بطيء غير قادر على الاستجابة المثالية لحاجات المواطنين 
المتزايدة .
من جانبها يبدو ان الحكومة الحالية التي جاءت عن طريق اتفاق سياسي في أيلول الماضي بين اكبر كتلتين في البرلمان  بحاجة الى إنفاذ إجراءات فورية وسريعة لضخ اكبر قدر ممكن من الأموال باتجاه شريحة المواطنين الغاضبين، وانعاش السوق العراقية التي تعاني من كساد وركود منذ العام 2014 باجتياح داعش واتجاه التمويل الحكومي نحو تلك الحرب الاستنزافية، ورغم تحقيق نصر عسكري من قبل قوات الحشد الشعبي والقوات الأمنية العراقية،إلا أن ما خلفته الحرب، فضلاً عن المشاكل السابقة للدولة العراقية ، كان كبيراً بحيث ظهرت نتائج تلك السياسة بعد عامين على التحرير الذي أنجز في 2017 .
وقبل اندلاع تظاهرات تشرين الاول الحالي،اتسعت احتجاجات العاطلين وخصوصاً من خريجي الجامعات العراقية وحاملي الشهادات العليا، وشوهدت اعتصامات أمام العديد من الوزارات للمطالبة بتعيينهم ،إضافة إلى تجمهر العديد ممن فقدوا وظائفهم بعد فسخ عقودهم نهاية العام الماضي، ويبدو ان مشكلة العمل هي التحدي الأكبر، اذ على الحكومة العراقية ان تجد حلاً عملياً لاستيعاب اكثر من مليون حاصل على الشهادة الجامعية خلال الأعوام السابقة حينما أوقفت حكومة السيد العبادي التعيينات عام 2014 بسبب الضائقة المالية وترهل الجهاز الحكومي،وتوقف شبه تام للمصانع والمعامل العراقية .كان لتلك المشاكل الأثر الأكبر في الاستجابة السريعة للشباب العراقي في الأول من تشرين الأول للخروج بتظاهرات واسعة شملت عشر محافظات عراقية ذات أغلبية شيعية–باستثناء البصرة-وبقيت المحافظات ذات الأغلبية السنية بلا حراك جماهيري يذكر،ونأت محافظات اقليم كردستان بنفسها عن الانخراط بهذا الاحتجاج،ورافق تلك الاحتجاجات سقوط أكثر  من 117قتيلاً و أكثر من 6 آلاف جريح بين صفوف المحتجين والقوات الأمنية، حسب احصائية مفوضية حقوق الإنسان العراقية، دون ان تقدم الحكومة تبريراً مقنعاً للمواطنين عن ارتفاع عدد الضحايا .
وفي اول رد فعل رسمي لاحتواء التظاهرات في اجتماع للرئاسات الثلاث في منزل رئيس الجمهورية،تصدى على إثرها رئيس البرلمان لاحتواء الاحتجاجات ودعا المحتجين للتوجه الى مجلس النواب للاستماع الى مطالبهم،وعلى مدى ثلاثة أيام من تلك الاجتماعات توجه الحلبوسي بحزمة المطالب الى الحكومة،التي أقرت اغلبها ،وأحالت الأخرى الى لجان متخصصة بجدول زمني .
فيما أدرجت الحكومة عدد القتلى بعداد الشهداء وأوعزت بتوفير علاج فوري للجرحى،وتشكيل لجنة عليا للتحقيق في العنف الذي رافق الاحتجاجات،وإقرار ثلاث مجموعات من القرارات الإصلاحية كمنح مالية للثلاثة أشهر الجارية للعاطلين، والإيعاز بخطة إسكان وطنية، فضلاً عن إيقاف إجراءات إزالة التجاوزات على أملاك الدولة منذ 2003،وغيرها من الإجراءات الفورية التي يأمل منها تهدئة الشارع العراقي .
المرجعية الدينية من جانبها وبخت الحكومة على هذا الحدث،وأدانت اعمال العنف سواء من قبل المتظاهرين او من قبل القوات الأمنية،وذكرت الحكومة بتحذيراتها السابقة بضرورة إيجاد حلول عملية للازمات التي تعصف بالبلاد، كما ألقت المسؤولية على البرلمان بكتله الكبيرة  في إنها لم تمارس دورها بشكل صحيح،داعية الى تشكيل لجنة من المستقلين لتقييم الأوضاع وتقديم الحلول .
وما يميز تلك الاحتجاجات إنها خلت تماماً من اي شعارات او مطالب سياسية ،واقتصرت على تحسين الوضع المعاشي وتوفيرالسكن المناسب،رغم سقوط عدد غير مسبوق من الضحايا، والملفت للنظر – ايضاً- قيام الحكومة بقطع شبكة الانترنت تماماً عن كل المحافظات – عدا اقليم كردستان- كمحاولة لوقف انتشار الشائعات التي حاول العديد تمريرها عن طريق الاحتجاجات، ويبدو ان الحكومة استمعت الى نصيحة من الجهات الأمنية برهانها هذا على تهدئة الشارع .فيما بعد طفت على السطح دعوة للخروج باحتجاجات أخرى في الخامس والعشرين من هذا الشهر يرافقها تحشيد إعلامي موجه وشعارات تدعو المواطنين للنزول إلى الشارع ،فيما حذرت شعارات أخرى سياسيين من ركوب موجة الاحتجاجات .وتغلب على هذه التحشيدات صبغة سياسية واضحة لإسقاط النظام السياسي أو إسقاط الحكومة وإجراء انتخابات مبكرة،أو تعديل الدستور العراقي بما يؤدي إلى إلغاء النظام البرلماني والعودة إلى النظام الرئاسي،وغيرها من الشعارات التي تحمل الأحزاب الإسلامية خصوصاً ما آلت إليه الأمور،فيما ينشط على الجهة المقابلة مدونون وكتاب وغيرهم في تعريف الناس بخطورة الأوضاع واحتمالية انجرار البلاد إلى الفوضى.فيما دافعت مجموعة ثالثة – اغلبهم من الأحزاب الحاكمة-عن إجراءات الحكومة والأمل بتنفيذها سريعاً.ولكن اخطر ما يمكن مواجهته هو ما يعبر عنه بـ “راكبي الموجة” في كناية عن عدد غير قليل من سياسيين حاليين وسابقين عرفوا بشبهات فساد كبيرة مدعومين بقنوات فضائية عراقية وعربية،وناشطين ومدونين مثيرين للجدل حول الجهات الممولة لنشاطاتهم،مع حفنة من صغار الموظفين ممن لا تاريخ لهم يذكر.والخطورة تكمن وراء الأهداف التي يسعى هؤلاء إلى تمريرها من خلال الاحتجاجات الجماهيرية المحددة يوم الخامس والعشرين من الشهر الجاري .ان السبيل الوحيد للدولة العراقية بجميع سلطاتها الدستورية،وغير الرسمية ان تقف عند جملة الاختلالات التي أصابت آلية النظام السياسي،والحيلولة دون تصاعد وتيرة الاحتجاجات عن طريق الاستجابة الفورية والإجرائية لتلك المطالب والتمسك بإصلاح النظام السياسي، بدلاً من تغييره ،وفق خطة ستراتيجية مدروسة من ثلاث مراحل تكون الأولى فورية،والثانية متوسطة، والثالثة تأسيسية للحكومة المقبلة في العام 2022 .ويكمن نجاح تلك الخطة الستراتيجية بالشروع في حملة وطنية لمكافحة الفساد بشكل جدي وتقديم المسؤولين الفاسدين للقضاء العراقي، كما يجب على الحكومة اتخاذ إجراءات عاجلة لإنعاش جهودها للبقاء كحكومة قادرة على الاستجابة والتكيف مع المتطلبات المعيشية
 للمواطنين .
الى ذلك ينظر العديد من المواطنين للعملية السياسية بشكل عام ولتعامل الحكومة والكتل السياسية بشكل خاص بشيء واضح من عدم الرضا،اذ ما زالت الحكومة متأثرة باملاءات الكتل السايسية،و تمنح الوظائف العليا لاقارب المسؤولين،وهي مرتبكة في التعديلات الوزارية التي طالت وزارات لا تمس حياة المواطن ومطالبه بالتغيير والاصلاح .اضافة الى ضبابية في تنفيذ فقرات البرنامج الحكومي .
ولذلك فالحاجة تبرز اليوم الى العمل الفوري والجدي لاصلاح النظام السياسي بشكل يجعله قادراً على منح الامل للمواطنين وطمأنتهم بما يتناسب مع دولة معدل إنتاجها من النفط قارب على الاربعة ملايين برميل يومياً .
وعلى الحكومة ايضاً، كما على مجلس النواب العمل سوية من اجل تحديد العلاقة مع حكومة اقليم كردسان التي تستأثر بحصة من الموازنة العامة دون ان تسهم في سداد نفقات الدولة .
كما على الحكومة ان تتوقف تماماً عن مكافأة المسؤولين المتهمين  بالانتفاع من المال العام ، وان تتوجه الى بناء علاقات وثيقة مع  الجامعات ومنظمات المجتمع المدني والنقابات المهنية المستقلة لتسريع عملية بناء الثقة مع 
المواطن .