{المتقرقزون»

آراء 2019/10/25
...

د. مزهر جاسم الساعدي
 
شاعَتْ في الأوساط الشعبيَّة في بعض البلدان العربيَّة حكاياتٌ كثيرة ومتعددة عن القرقوز أو “الأرجوز” كما يسميه الاخوة في مصر، وربما قارب بعضهم بينه وبين قرقوش الوزير الذي كان أحد أعمدة حكم صلاح الدين الايوبي، بل إنَّ العديد من المعنيين يذهبُ بالقول الى أنَّ التسمية والاشتقاق إنما جاءت لأغراضٍ عديدة من بينها إنَّ أحكام قرقوش كانت أحكاماً مثيرة للسخرية وإنها لا ترتبط بالمعنى العقلائي للأحكام، ولذلك صارت مترابطة في الدلالة والمعنى.
 غير أنَّ الفرق في ما بينهما إنَّ قرقوش الوزير هو شخصٌ حيٌّ تسلم مناصب عديدة حتى تسلق وصار له من الأهمية بين العامة نتيجة قربه من الحاكم، أما القرقوز فهو عبارة عن دمية تتحرك بواسطة شخص يصاحبها كلامٌ محكيٌّ وصوتٌ يثيرُ السخرية لتعبر عن آراء ومواقف يريدها من يحركها، قد يتضمن بعض الرسائل المشفرة التي يراد بها الوصول الى الجمهور المتلقي بحسب المكان والزمان المعدين لهذا العرض الحكواتي.
إنَّ الذي دعاني لسوق هذه المقدمة فضلاً عن تذكرها، كثرة المتقرقزين في العراق بشكلٍ لافتٍ بعد 2003، لا سيما مع وفرة المطبوعات الصحفيَّة وتعدد اتجاهاتها، فضلاً عن كثرةٍ مبالغٍ فيها في عدد الفضائيات العراقيَّة، إذ صار لهؤلاء سوقٌ رائجةٌ بين الطبقة السياسيَّة باعتبار انتفاعهم منهم، فكما تتحرك الدمية التي أسلفنا عنها يتحرك هؤلاء متنقلين بين فضائيَّة وأخرى وكأنهم يعيدون رجع الصوت الذي يُطلبُ منهم وصارت مواقف بعضهم تتطابق مع مكان التجمهر ونوع الجمهور المستهدف، أو بمعنى أكثر تحديداً صارت المواقف والتحليلات تعطى كما يشتهي صاحب الصحيفة الفلانية أو القناة الفلانية، ما أفسد ذائقة المتلقي وضاع بين التهريج والحقيقة.
لقد صارت مهنتهم مطلوبة بشدة من عديد الجهات، ربما يطلق عليهم البعض اسم (نعم بالتأكيد البعض لأنَّ التوصيفات التالية فيها من الشخصيات المحترمة ما لا يمكن التعدي على نضجها ومكانتها) محللون وأكاديميون أو خبراء أو نشطاء أو... وتطلق هذه التسميات بحسب قناعة صاحب المكان الذي فيه القرقوز.
لقد طور العديد منهم من أساليبه وانتقل من العروض الحية المباشرة الى الصالات المغلقة وصار يقدم حكايات خاصَّة بحسب مزاج تلك الصالات وجمهورها، فلكل صالة ومكان حكايته التي تثير في نفوس المستمعين التشويق، لذلك ليس من المستغرب أنْ تجدَ العديد منهم يتنقل من أقصى اليسار الى أقصى اليمين ومن التطرف الى التسامح ومن..، وأين ما وجد الأرضية التي تسهمُ في دوام تواجده لا يتردد أبداً في ديمومتها والإبداع في الحكايا التي تؤمن له هذه الديمومة. والغريب إنَّ أصحاب تلك الصالات المغلقة أو المفتوحة يعلمون تمام العلم أنَّ حكاية القرقوز التي تتلا بينهم إنما هي لغرض التكسب ولغرض ديمومة الحال، غير أنهم متمسكون بمثل هؤلاء ويغدقون عليهم العطايا والمديح ما انْ تنتهي حكاياتهم.
الأمر المؤكد إنَّ هؤلاء المتقرقزين نشطوا في جميع المجالات مع وجود أرضية جيدة لعرض حكاياتهم وصاروا يتصدرون المشهد في مؤسسات الدولة ويجيدون فن التزلف والتقرب ومسح الأكتاف وقد ساعد في ذلك وجود شخصيات لا تقل عنهم سخرية وضعوا على رأس تلك المؤسسات، ما أسهم في انهيارها بشكلٍ سريعٍ انعكست آثاره السلبيَّة على حياة المواطن
 العراقي.
لعلَّ هذا المشهد المؤسف والمثير للقرف هو واقع حال بعض الذين ارتدوا رداءً فضفاضاً رثاً تلبسوه بداعي تسميتهم نخبة، ولا يقل عنهم قرفاً تلك القوى السياسيَّة التي تعتمدُ على قرقوزات توزعهم في أماكن عدة ظنا منها التشويش على الواقع المزري الذي صنتعه أيديهم.
لقد صار واضحاً الآن إنَّ وعياً مجتمعياً بدأ يتبلور ولا يمكن لمثل هذه القرقوزات ومن يحركها أنْ تستسيغ تلك الحكايات التي ملَّ منها المتلقي.
إنَّ التغييب المتعمد والتجاهل المقصود للنخب الثقافيَّة والأكاديميَّة والفاعلين المجتمعيين من مشهد الأحداث والمشاركة فيها لا يمكن له بأي حال من الأحوال أنْ يسدَّ عبر أولئك المتقرقزين.
من الصحيح جداً لحصد المرجو من الخطاب في حدوده الدنيا (أياً كان شكل ومضمون ذلك الخطاب) أنْ يتخلله بعض الصدق ليكون أكثر إقناعاً وتأثيراً عبر شخوص بدم ولحم لا عبر دمى تتحرك بواسطة شخوص متقرقزين.