روبرت فورتشن.. سارق الشاي من الصين

بانوراما 2019/10/26
...

بالابي مونسي
ترجمة: بهاء سلمان
خلال العام 1843، أبحر النباتي الاسكتلندي "روبرت فورتشن" الى الصين، مموّلا من قبل جمعية البستانيين الملكية لدراسة الأصناف المنوّعة من الشراب المزروع هناك والذي صار شائعا للغاية داخل بريطانيا. لكن عندما اتصلت به شركة الهند الشرقية، المملوكة لبريطانيا، سنة 1848 طالبة منه العودة الى الصين، كانت المهمة مختلفة للغاية، فهذه المرة ليست لأغراض الدراسة، بل للسرقة!
في تلك الفترة، بعد أكثر من ألفي عام على بداية ارتشاف الصين الشاي لأول مرة، وبعد قرنين من تهافت البريطانيين على تناول هذا الشراب، كانت شركة الهند الشرقية قد فقدت احتكارها التجاري في الصين، كما أصاب عملية توفير الشراب الانحسار مع تزايد الطلب.
بحلول خريف تلك السنة، حلق فورتشن لحيته، وارتدى ما أشير له لاحقا  "زي الماندرين" للتجوّل داخل معمل شاي، متخفيا بهذا الرداء كي يظهر أنه مسؤول من مقاطعة صينية أخرى، ليريه المدير مفاصل المعمل، حيث يلتقط العمال أوراق الشاي الثمينة ويخمرونها ويجففونها. لم يعلم موظفو المعمل أن فورتشن كان يتجول داخل معملهم لمهمة خاصة، وهي سرقة البذور، ودراسة كيفية حصاد ومعالجة الشاي ونقل البضاعة، والأفكار، المسروقة الى الهند إذ خططت شركة الهند الشرقية للشروع بعملية تنافسية ضمن مسعاها لإنهاء احتكار الصين لهذه التجارة الرائجة.
 
آفاق جديدة
بيد أن سلوك فورتشن مهد لوضع الهند على طريق جعلها تصير أحد أكثر المنتجين الرواد على مستوى العالم للشاي، فبحسب مؤسسة قيمة العلامة التجارية الهندية، وصلت قيمة صادرات البلاد الاجمالية من الشاي الى أكثر من 837 مليون دولار، وهي ثاني أكبر منتج عالمي للشاي بعد الصين. ومع أن الشاي الصيني كان قد بيع لأول مرة الى انكلترا سنة 1635 بقيمة تصل في يومنا هذا الى نحو 1200 دولار لكل باوند (445 غم)، فقد سيطرت الصين على زراعة الشاي وانتاجه على امتداد القرن التاسع عشر. 
لم تتمكن بريطانيا من انتاج شايها الخاص بها، واعتمدت لفترة من الزمن على نوعية رديئة مستوردة الى أوروبا عبر هولندا. بعد ذلك، عززت علاقاتها مع الصين لأجل تأمين الشاي مقابل الفضة، لكن تضاؤل المعدن الثمين جعل بريطانيا تتحوّل من الفضة الى الأفيون، الذي كان يزرع في بعض أجزاء الهند البريطانية السيطرة.
خلال سنة 1788، فكرّت شركة الهند الشرقية لأول مرة بزراعة الشاي في الهند، كي تتمكن بريطانيا من توفير الشراب بأسعار مخفضة جدا. واكتشفت الشركة شتلات برية للشاي وسط مزارع ولاية أسام، والتي انتشرت بعدها الى ولاية دارجيلنغ شمالي البنغال. وبحسب محاضرة القيت في الجمعية الملكية للفنون سنة 1887، جرى اصطحاب صانعي الأحذية والنجارين الساكنين في المستوطنة الصينية داخل كلكتا الى هذه المزارع "وفقا لاعتقاد جازم يشير الى كون كل رجل صيني بالضرورة هو خبير بزراعة الشاي وتصنيعه،" رغم أن العديد منهم لم يرَ أية شتلات مطلقا في حياتهم.
 
سرقة لم تتم
تقول ساره روز، مؤلفة كتاب ’لجميع الشاي في الصين‘: "شاي أسام كان مهما لأنه خلال تلك اللحظة لم يكن البريطانيون يظنّون حقا بامكانية زراعة الشاي في أماكن أخرى خارج شرق آسيا، ومنحتهم تلك الشتلات البرية فكرة امكانية زراعة الشاي داخل الهند." وبعد عودته من مهمته، كتب فورتشن الذي كان يشعر بزهو هائل: "يسعدني ببالغ السرور ابلاغكم أنني قد حصلت على كمية كبيرة من البذور والنباتات الصغيرة التي أثق تماما بوصولها سالمة الى الهند." وبشكل إجمالي، جمع المغامر الاسكتلندي 13 ألف نبتة وعشرة آلاف بذرة؛ إذ أمضى شهورا لكي يجمعها داخل قنانٍ زجاجية تسمح لضوء الشمس بالدخول وما يكفي من الهواء كي تبقى حيّة خلال السفرة الطويلة، ومن ثم تهريبها الى هونغ كونغ، ومن هناك يشحنها بحرا الى الهند. غير أن السفينة المتوجهة صوب كلكتا غيّرت مسارها الى جزيرة سيلان؛ دولة سريلانكا حاليا، وبحلول الوقت الذي وصلت فيه الى مستنبت شركة الهند الشرقية، كانت البذور كلها قد تعفّنت.
بحلول العام 1849، قام فورتشن مرة أخرى، بسرقة آلاف الأغصان من جبال وويي، الشهيرة بالشاي الأسود، مستعينا بخادمه الصيني سينغ هو، الذي جعله يستأجر أطفالا محليين لمساعدته بجمع البذور، كما اشترى شتلات من معبد 
قريب. وأوصل فورتشن النماذج الى شنغهاي، ومن هناك أرسلها الى الهند مجددا، هذه المرة مع تعبئتها بتربة داخل زجاجاتها لجعلها تتبرعم وتنمو خلال الطريق.
 
القهوة خارجاً
لغاية ذلك الزمن، كانت الهند توصف بأنها أرض القهوة؛ لكن خلال حياة فورتشن، أصبحت الهند متفوّقة على الصين بإنتاج الشاي عالميا. وحل الشاي في الهند بشكل بطيء محل محصول القهوة، إذ من الممكن زراعته على سفوح المرتفعات العالية، وعملت فطريات أصابت مزارع القهوة سنة 1869 على الإسراع باضمحلال 
القهوة. وخلال فترة لاحقة من حياته، عاد فورتشن الى الصين للحصول على بذور الشاي لأجل مزارعين أميركان كانوا راغبين بزراعة المحصول في بعض الولايات الأميركية، وهو حلم سرعان ما تبخر بعد الحرب الأهلية الاميركية، لانتهاء استغلال العبيد كعمالة رخيصة تنهض بمهمات الزراعة.
عندما مات فورتشن سنة 1880، قدّرت ملكيته، التي كان من بينها بعض بذور الشاي التي سرقها، بخمسة ملايين دولار. وبعد سنة من وفاته فقط، افتتح محل متخصص بالشاي الهندي داخل شارع اوكسفورد في لندن، كما باعت أكشاك ومحال تجارية ضمن ضواحي العاصمة البريطانية الشاي الهندي. 
لكن الشاي لم يكن شائعا بين الهنود أنفسهم، فباعتباره شرابا انكليزيا، كان يستهلك غالبا من قبل المهاجرين البريطانيين ومن رافقهم. 
وبقي الأمر على هذا الحال حتى استقلال الهند سنة 1947، حينما أطلق مجلس الشاي الهندي حملة ترويجية للشاي الذي تنتجه البلاد، ليقلب الهنود باتجاه استهلاك الشاي الذي كان يصدر سابقا الى بريطانيا.
حاليا، تعد الهند ثاني أكبر مستهلك للشاي بعد الصين. 
وكحقيقة واقعة، يعد الشاي ثاني أكثر شراب رائج بعد الماء؛ كما لم يعد الشاي الهندي الثاني بالتصنيف الأفضل، فخلال شهر آب الماضي، بيعت كمية نادرة من شاي أسام بسعر حطم الرقم القياسي العالمي خلال مزاد أقيم في الهند، حيث دفع أكثر من ألفي دولار مقابل كيلوغرامين من شاي علامة "ميجان اورثوذكس غولدن".
 
مجلة أوزي
 الأميركية