أحمد الشطري
وانت تقرأ عملا ابداعيا للروائي والقاص محمد خضير، تحتاج الى ان تستنفر كل طاقتك الذهنية؛ لعلك تتمكن من ملاحقة ما سيعرض امام ناظريك من دفق فكري وصوري. تحتاج الى ان تفرز مساحة خزن في خلايا دماغك؛ لكي تلتقط وتحفظ ما يرتسم من خطوط طولية وافقية، مستقيمة ومنحنية، لتشكل بعد ذلك ما يمكن ان يكون صورة او صورا متعددة، ربما تمكنك وانت تلملم شتات تلك الصور، او اشباه الصور من بناء مشهد متكامل، او شبه متكامل، تبعا لقدرتك في تخيل الاشياء ورسمها، وليس من الصعب ان تخرج بحصيلة ما، ولكن من الصعب ان تخرج بكل او جل ما ينطوي عليه ذلك النص من افكار وابعاد رمزية وجمالية، الا اذا تيسر لك صفاء ذهنيا وعمقا فكريا وقدرة تحليلية موازية، او قريبة من النص والناص. ومن هنا رأيتني وانا أقرأ وأعيد قراءة قصة ( الصرخة)، التي جاءت ضمن مجموعته القصصية (في درجة 45 مئوي) والمؤرخة بعام 1972، استنفر كل ذائقتي محاولا الامساك بلقطة هنا ومشهد هناك، متأملا ان اقترب ولو من ادنى مسافة لافق هذا الفضاء الشاسع. وفي لحظة اصغاء وتحفز لذلك الهمس، او الصراخ -لا فرق- فكلاهما فضاء تعبيري، اثار انتباهي اشارته المتكررة الى اللون الاخضر لخلفية المشهد، وهو يصف مسرح السيرك:(في انوار خضراء شاحبة، في الفراغ الاخضر الشاحب،من العمق الاخضر) هذه الاشارات جعلتني اربط ذلك بما عرف سينمائيا بـمفتاح الكروما (Chroma key)، فمن خلال تقنية الخلفية الخضراء، ومع حركة سيارة السيرك سيترك محمد خضير المشاهد المتراكضة تجري بصورها واحداثها المتلاحقة؛ لترسم الخط المستقيم او المنحنى – لا فرق- بين نقطتي البداية والنهاية.
ومع سير سيارة النقل تتوالى المشاهد الصورية، وكأنها تتوالد بعضها من بعض، بايقاع متسارع، وعلى المتلقي ان يجري ببصره بسرعة السيارة؛ لملاحقة تلك المشاهد، وسنلحظ ان ثمة توازن وانضباط ايقاعي بين التدفق الصوري المتسارع وسرعة سير السيارة، هذا التوازن يشعرنا وكأننا جزء من ركاب تلك الحافلة، في حالة اشبه ما تكون بحالة من يتفرج على فيلم سينمائي عبر تقنية (3D) .
وليس بدعا ان نشير الى ان من احد مميزات التقنيات السردية لمحمد خضير، هو هذه القدرة الهائلة على الوصف المتدفق للفضاء المحيط بالحدث، الذي لايقل براعة عما تعرضه عدسات الكاميرات السينمائية، فهو يكاد ان يضع امام عينيك ادق التفاصيل لفضاء الحدث؛ ليجعلك تعيش اجواءه بكل تفاعلاتها وانفعالاتها.
ان البراعة والقدرة التي يتميز بها محمد خضير في سبك البناء التصاعدي للحدث، عبر لغة تقترب كثيرا من اللغة الشعرية تجعل ذهن المتلقي منجذبا بقوة غير عادية نحو هذا الانسكاب اللغوي المدهش، ولن يتمكن من الانفكاك من اسر ذلك الانجذاب الا بعد نفاد الكلمات المنسكبة، وتسربها في المسارب الذهنية المتحفزة وهي تتلقى صعقة نهاية الحدث السردي.
تنطوي قصة الصرخة على مرموزات متعددة، لعل اولها هو هذا العنوان الذي سرعان ما يفتح امامنا نافذة تطل على لوحة الصرخة لـ(إدفارت مونك)، ولكن هذه النافذة ستبقى منفتحة امامنا باحثة عن اثر يربط بين مشهد اللوحة وما يتولى من مشاهد في القصة، وما ان ندخل في اجواء القصة حتى تواجهنا اولى اللوحات التي يرسمها محمد خضير، وهي لوحة مسرح السيرك ،هذه اللوحة التي تنفتح بدلالاتها على افاق متعددة من دون ان تحد من افاق تأويلها التغيرات الزمنية والحياتية، فهي تبقى ترسم واقعا لا تختلف المشاهد السيركية فيه كثيرا مهما جرت عليه من متغيرات.
ثم يتنقل باعثا الحياة بلوحات وتماثيل لها اثرها الايحائي في ذهنية المتلقي، ومع حركة سيارة السيرك تدب الحياة في تلك الاشكال الابداعية، وكأنه يريد ان يوحي لنا بان للعمل الابداعي حياته التي يستمدها من المحفزات الذهنية القادرة على بث الروح فيها.
مع حركة السيارة ستفاجئنا تلك الساحرة وهي تخرج من النهر، تلتف حول جسدها العاري الافاعي السود وهي محاطة باغصان الاشجار المتشابكة، هذا المشهد هو عملية رسم صورة متحركة للوحة (ساحرة الافاعي) لهنري روسو، كما يشير الى ذلك الاستاذ محمد خضير، ثم ينتقل ليبعث الحياة في ذلك التمثال الهائل الذي يسكن حافة النهر، ولعله لـ(بوساديون) آلهة البحر او زيوس، فيصوره وكأنه يتنقل بخطواته فوق تلك المراكب الراسية؛ ليصل الى الساحل قبل ان تتلاشى صورته في الافق البعيد.
ثم تستمر سيارة السيرك بمسيرها حتى تفاجئ بذلك الفم الصارخ الذي يرسم نهاية مسيرتها الزاحفة نحو الافق اللا محدود. وربما من الممكن ان نشير الى ان احدا ما يمكن ان تنفتح عليه دلالات هذا المشهد هو ان توالي الصرخات قادرة على انهاء الحياة السيركية التي من الممكن ان تشابه حياتنا والصراخ بوجوه أولئك المروضين وتحطيمهم وصناعة حياة جديدة وجدية لكائنات غير قابلة للترويض.
ولعل من نفالة القول ان نشير هنا إلى ان توالي هذه المرموزات في هذه القصة القابلة على الانفتاح على دلالات متعددة هو سمة من سمات المحمولات الفكرية لنصوص المبدع الكبير محمد خضير التي تجعلها ذات مكانة خاصة.